على بعد بضعة أيام، دعا كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى إنشاء جيش أوروبي. هاتان الدعوتان أثارتا غضب دونالد ترامب الذي رأى فيهما خطوة معادية لأميركا. والحال أن تنظيم الأوروبيين لدفاعهم الخاص بشكل أفضل لا يشكّل بالضرورة خطوةً مناوئة لأميركا، وخاصة أن الأوروبيين والأميركيين متحالفون عسكرياً داخل منظمة حلف شمال الأطلسي، التي أنشئت من أجل الحماية المتبادلة من التهديد السوفييتي إبان الحرب الباردة.
ومن جهة أخرى، طالب دونالد ترامب الأوروبيين مؤخراً ببذل جهود أكبر من أجل الدفاع المشترك. إنه ما يسمى «تقاسم العبء»، ولكن هذه النقطة هي التي تختلف حولها وجهات النظر الأوروبية والأميركية بشكل رئيسي. فالأميركيون يرغبون في أن يدفع الأوروبيون أموالاً أكثر من أجل دفاعهم، مع الحفاظ في الوقت نفسه على سيطرتهم شبه الحصرية على حلف «الناتو»، في حين يرغب الأوروبيون في تقاسم السلطة بين شركاء غير متكافئين، بيد أن ترامب ليس مخطئاً تماماً حينما يرى في دعوة إيمانويل ماكرون وأنجيلا ميركل شيئاً يتعارض معه ومع سياسته، وذلك على اعتبار أن الزعيمين الفرنسي والألماني يؤاخذان الزعيمَ الأميركي على انتهاج سياسة مغرقة في الأحادية ولا تأخذ في عين الاعتبار وجهة نظرهما بشكل كافٍ.
غير أنه من الناحية التاريخية، هناك اعتماد أوروبي على الأميركيين على الصعيد الاستراتيجي. فلدى خروجهم من الحرب العالمية الثانية، كان الأوروبيون مدمَّرين ومخرَّبين جميعاً، سواء منتصرين كانوا أو منهزمين. ووحدها الولايات المتحدة كانت قادرة على ضمان أمنهم إزاء التهديد السوفييتي. وهكذا، سلّم الأوروبيون مهمة أمنهم للولايات المتحدة. ولاحقاً، قاموا بإعادة بناء اقتصاداتهم، ولكن اعتمادهم على حاميهم الأميركي كان قد أصبح مألوفاً؛ وهذا الاعتماد بقي واستمر، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. واليوم، إذا كانت روسيا ما زالت تمثّل تحدياً استراتيجياً للأوروبيين، فإنها لم تعد تمثّل تهديداً عسكرياً. فبالنظر إلى الـ60 مليار دولار من النفقات العسكرية، فإن الروس بعيدون جداً عن أوروبيي حلف «الناتو» الذين يخصّصون ما مجموعه 250 مليار دولار لدفاعهم. وهكذا، فإن الفرنسيين والألمان يريدون إعادة إحياء فكرة استقلالية استراتيجية أوروبية تسمح لهم بالحفاظ على التحالف مع الولايات المتحدة، مع الخروج في الوقت نفسه من علاقة الاعتماد عليها. ولكن هذا لا يناسب دونالد ترامب الذي يريد الإبقاء على نوع من العلاقة التراتبية مع الأوروبيين.
غير أنه في ما يتعلق بالاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية، ما زال الطريق طويلاً بين المشروع والواقع. هذه الفكرة الفرنسية، ومنذ عهد الجنرال ديجول، تجد صعوبة في تقاسمها من قبل الشركاء الأوروبيين. وقد استطاع ديجول تنفيذها لأن فرنسا، ونظراً لامتلاكها السلاح النووي، لم تعد في حاجة إلى المظلة النووية الأميركية. ولكن هذا لم يكن واقع الحال بالنسبة للبلدان الأخرى، وفي مقدمتها ألمانيا المقسمة التي كانت معرضة للتهديد الشيوعي بشكل مباشر. وإذا كان الألمان يشاطرون الفرنسيين تحليلهم الاستراتيجي اليوم، فإنهم يجدون صعوبة في الإقدام على الخطوة من أجل تحقيق هذه الاستقلالية الاستراتيجية. ذلك أن بعض العادات استحكمت وترسخت وتعوّد عليها الكثيرون، وخاصة العسكريين الألمان الذين يوجدون وسط جهاز «الناتو» ولا يتصورون إنشاء آخر.
البلدان الأوروبية الأخرى هي أقل استعداداً للذهاب في هذا الاتجاه، وخاصة بلدان مثل بولندا أو دول البلطيق التي تعيش دائماً في قلق من التهديد الروسي وتعتقد أن واشنطن وحدها تستطيع حمايتها منه.
وبالتالي، فإن ثقل التاريخ ما زال يؤثر على باريس وبرلين، ذلك أن فرنسا ترى في الاستقلالية إزاء الولايات المتحدة وسيلة لتعزيز دورها المحدد. هذا في حين ترى ألمانيا في الحماية الأميركية ضمانة للاستقرار وتخشى أن تعمد الولايات المتحدة، في حال اختلاف عميق، إلى فرض ضرائب ورسوم أكبر أثقل على صادراتها من السيارات، التي تُعد جوهرة الصناعة والازدهار الألمانيين.
*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس