قال لي وزير خارجية أفريقي سابق التقيته خلال الآونة الأخيرة في أبوظبي أثناء «المنتدى الاستراتيجي الخامس» الذي استضافته أبوظبي إنه كان يعرف مثل غيره أن دولة الإمارات العربية المتحدة استطاعت بناء تجربة تنموية ناجحة يشهد بها العالم كله، لكن المفاجأة التي لم يتوقعها تمثلت في أن هذا النجاح لا ينحصر في العامل الاقتصادي بل يشمل كل عناصر النجاح على الصعد الاستراتيجية والثقافية والاجتماعية.
شرحت للصديق الأفريقي أن النموذج الإماراتي يمكن استجلاؤه في مستويات ثلاثة رئيسية هي: التجربة الاندماجية الوطنية الراسخة، والطفرة التنموية المذهلة، والمنظور الاستراتيجي الدولي المتميز.
بخصوص التجربة الاندماجية، شكلت التجربة الإماراتية حالة نجاح فريدة على الصعيد العربي الذي شهد محاولات عديدة باءت بالفشل من تجربة الوحدة المصرية- السورية في نهاية الخمسينيات إلى المبادرات الكثيرة التي تمت في سياق النزعة القومية العروبية التي حكمت العديد من البلدان العربية.ما شكل خصوصية التجربة الإماراتية هو الوعي السياسي للقيادات التي أسست الدولة الاندماجية وفي مقدمتها المغفور له الشيخ زايد باني الدولة الإماراتية الحديثة بأن ما أفضى إلى إخفاق المحاولات الوحدوية العربية هو غياب الإجماع المؤسس على التوافق والمصالح المشتركة. ومن هنا كرّس الميثاق الاتحادي الأطر الدستورية والتنظيمية للدولة الوطنية الجامعة في احترامها للخصوصيات المحلية وضبطها للمصالح المشتركة مع سعيها القوي لبناء هوية وطنية صلبة لم تنفك تتعزز وتقوى مع تجذر الهياكل المؤسسية للدولة وتعمق التجربة الوحدوية على الأرض.
هذا الدرس المهم يحتاج اليوم للتأمل في الوضع العربي الراهن المأساوي، حيث تُبذلُ جهود صعبة في ترميم الكيانات الوطنية المتآكلة والمنهارة في ساحات عديدة تحتاج إلى هندسة سياسية كاملة تراعي تنوع التركيبة المجتمعية وتعدد أطر الهوية. فالتجربة الإماراتية تعلمنا بوضوح أن المنظور الاندماجي التوافقي هو الطريق الأمثل لبناء هوية وطنية صلبة، وإن الكيانات المركزية الأحادية تضعف النسيج الاجتماعي وتقوض البناء السياسي بكامله.
أما التجربة التنموية فتبرز في عاملين أساسيين وجّها المنظور الإماراتي هما: ربط التنمية الاقتصادية بالتنمية الإنسانية في مفهومها الشامل المتعلق بقيم الرفاهية والتسامح والفاعلية، والانفتاح الإيجابي على السوق الدولية إدراكاً لطبيعة حركية الاقتصاد العالمي المتجه إلى العولمة الشاملة.
فمع أن الإمارات من الدول النفطية الأساسية إلا أن قيادتها أدركت منذ البداية أن التنمية الحقيقية تقتضي التركيز على بناء الإنسان بصفته محور التنمية، بما يفسر الاستثمار الواسع في التكوين العلمي والثقافي للمواطن وتعزيز قيم الإنتاجية والفاعلية في وعيه. وهكذا لم يكن إنشاء قطاعات وزارية مخصصة للتسامح أو السعادة مجرد خطوة رمزية أو شكلية، بل يندرج في سياق تجسيد هذا المفهوم الإنساني للتنمية الذي يدمج الأبعاد الثقافية والحضارية في صلب المشروع التنموي. كما أن من مقومات هذا المشروع الانفتاح المبكر على الثورة التقنية والاستثمار الواسع في مكوناتها المتركزة على الطاقات البديلة النظيفة وشبكات الذكاء الاصطناعي واقتصاد المعرفة، بما يؤهل الإمارات لموقع متقدم في الاقتصادات المستقبلية.
وفي حين راهنت دول عربية عديدة على منطق الحماية والانغلاق باسم التنمية السيادية المتمحورة حول الذات، أدركت الإمارات مبكراً أن شروط النهوض الاقتصادي والتنموي تتطلب الاندماج النشط في حركة التبادل التجاري العالمي، فهيأت البيئة الجاذبة للاستثمار الخارجي وحوّلت البلاد إلى أحد أهم مراكز المنظومة الاقتصادية الدولية المعولمة.
أما المنظور الاستراتيجي، فيبدو جلياً في تحول الإمارات في السنوات الأخيرة إلى إحدى الدول المحورية في النظام الإقليمي الشرق أوسطي، وأحد البلدان الفاعلة في المنتدى الدولي، ويستند هذا المنظور الاستراتيجي الفعال إلى مرتكزات ثلاثة قوية هي: الشراكة الخليجية القوية من خلال القطب الثنائي مع السعودية الذي أصبح محوراً ناجعاً وفاعلاً في إدارة أوضاع المنطقة وأزماتها ومن أبرز مظاهر هذه الشراكة التحالف العسكري لإنقاذ اليمن، والدفاع عن الشرعية ومواجهة الأطماع الإيرانية، والبناء الإقليمي العربي من خلال الدور الإماراتي الفاعل في إطفاء بؤر التوتر في مناطق الاضطراب والفتنة وترميم المنظومة الاندماجية العربية وتنشيط مؤسساتها المشتركة، والشراكة الدولية المتنوعة التي تراعي تحولات النظام الدولي وبروز قواه الصاعدة في إطار قراءة ذكية وواقعية وديناميكية للعلاقات الدولية الجديدة.
وحاصل الأمر أن التجربة الإماراتية تشكل في مكتسباتها البارزة نموذجاً مكيناً في العالم العربي ودليلاً ساطعاً على قدرة القيادة المتبصرة على الاستفادة القصوى من عناصر القوة المادية والإنسانية في بناء المجتمعات والنهوض بها.
*أكاديمي موريتاني