لم تَعُد التَّحليلات والقراءات الخاصة بتصنيف المجتمعات على أساس التقدم والتخلف، الغنى والفقر، العلم والجهل، أو حتى الاستقرار والفوضى، مقبولة اليوم بمعناها المتعارف عليه، حيث إن الأحكام القطعية المستندة إلى المعطيات هي المدخل للتنصيف، وبالتأسيس عليها يتم اتخاذ المواقف وإصدار قرارات لإقامة العلاقات بين الدول أو قطعها، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في أنماط الرؤى القديمة، والتي لا تزال إلى اليوم مُسيْطرة على الأذهان، ذلك لأن الواقع اليوم استقر بنا على المستوى العالمي، على فوهة بركان«الجبهات الداخلية الثائرة»، حيث المطالبة بالحقوق، والنفور من الفساد، والحرب من أجل مصادر الرزق، تمثل المنطلق والمرتجى والأمل للتغيير لدى كل شعوب الأرض.. هنا تبدو الأيديولوجيات والأفكار وحتى المواقف السياسية تابعة بالضرورة إلى حركة الفعل لدى عامة الناس وخاصَّتهم.
لقد تساوى اليوم رد فعل أفقر شعب في الماضي مع ما يحدث داخل فرنسا من انتفاضة اجتماعية تحركات أصحاب «السترات الصفراء» مثلاً وله نفس التأثير على ما يحدث في الولايات المتحدة الأميركية والصين والهند وروسيا، وفي كل الدول الأخرى، حيث الخوف العام نابع من انتفاضة الجياع في المستقبل، وهذه حالة عامة للبشرية منذ خُلقت، لكنها تضاعفت اليوم نتيجة الزيادة في الاستهلاك من جهة، وتنوع طرقه من جهة ثانية، وتعدد مواده من جهة ثالثة، فالمسألة غير مختصرة لدى مجتمعات الرفاه أو الغنية في«لقيمات» تزود الناس بالطاقة من أجل دورة حياة مستمرة، إنما هي الحفاظ على«التخمة» كنمط حياة يميزهم عن غيرهم، بغض النظر عن تأثير ذلك على الآخرين داخل تلك المجتمعات نفسها.
حِمَمُ بركان الجبهات الداخلية تؤرق صُنَّاع القرار في كل دول العالم، ليس فقط لتأثيرها السلبي، ولكن لأنها تزرع الخوف على نطاق واسع، وتُنْهي الوضع الطبيعي للحياة، وتُفشل التصورات والمشاريع، كما أنها تأتي محملة بتراكمات الرفض والقنوط واليأس من حقيقة طال انتظار تغييرها، متعلقة بالتعايش في فضاء عام، من خلال التركيز على تقديم سياسة سوق العمل من أجل العيش، عن منظومة علاقات البشر في سنوات الكساد، حين تأكل السنوات العجاف - ربما العقود- كل ما يقدم لهن على المستوى العالمي، وعندها لن تنفع «الحمائية» ولا الجدران العازلة، والتي هي نتاج التصور العقيم لحماية الجبهات الداخلية من الآخرين، وهي في حقيقتها ثائرة داخل حيزها الجغرافي.
إذاً، نحن اليوم في حال من التّيه والغي في عمر الزمن، وانتفاء الرشد، لا لغياب التنظير والتخطيط، ولا لانحسار الجهود الوطنية والدولية في التذكير بالأحداث الراهنة ومحاولة تجاوز صعوبات الحياة، ولكن لأننا نتجه نحو عزلة وخوف، يشملان كل الطبقات الاجتماعية والفئات الثقافية، والقضاء عليهما في نظر من أُوكل لهم مصير الدول والحكومات، طوعاً أو كُرهاً، يتم من خلال تضخيمهما، ودفعهما إلى الواجهة، في لحظة متعة نعتقد أنها دائمة، وهي في حقيقتها إلى زوال كونها تتناقض مع مبدأ «التعارف» بين البشر، الذين هم في حاجة إلى ارتواء من ظمأ الروح، وإلى نور من عمى البصيرة، وإلى يقين التغيير القدري من ظنون الاستقرار نتيجة زخارف الفكر والأرض والدنيا.