أعتقد أن التسامح الديني لا يرسخ في أي مجتمع إلا إذا نبع من داخل أفراده، أي أن لا يكون تسامحهم التفافاً اضطرارياً حول التعصّب الذي أدخلهم في الجدار، أو ركوباً منهم على موجة التوجهات الجديدة، أو تكتيكاً لتحقيق أهداف معينة.
ويعرف المرء حلاوة التسامح في قلبه متى ما اعتبر الآخرَ صادقاً مع نفسه، مخلصاً في توجهه، وأنه رفيقٌ له في الطريق لكن عبر مسار مختلف، ينشد ما ينشده، ويروم ما يرومه، إذ المقصود في سائر الأديان والمعتقدات واحد، وأنه إذا كان بعضهم قد اشتبه عليهم أمر ربّهم، كما نعتقد نحن، فهذا لا ينافي أنهم متوجهين إليه من حيث تصوّرهم، وحسابهم لا لنا ولا علينا.
وثمة كنز في التراث مخفيٌ تحت الرمال، وأعني المبدأ الذي آمن به قدماء الصوفية حين اعتبروا الحقائق المتعددة حقيقة واحدة، وأن جوهر الأديان واحد، فعبّر الرومي عن ذلك قائلاً: «عباراتنا شتى وحسنك واحد». وحكى ابن الفارض في تائيته على لسان الذات الإلهية بلغة متسامحة مع صاحب الزّنّار، وحامل التوراة، ومع العاكفين على الأحجار ما داموا قد قصدوه. وقال ابن عربي عن صدره الرحب بالتعدّدية الدينية: «وقابلاً كل صورةٍ.. فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبانِ.. وبيت لأوثانٍ وكعبة طائفٍ.. وألواح توراةٍ ومصحف قرآنِ».
ومتى اعتقد المرء بتعدّد المسارات المؤدية إلى النهاية نفسها، احترم طرق الآخرين ودروبهم، وأنهم لابدّ قد أبصروا حكمة ما وراء معتقداتهم، واستشعروا فلسفة ما كامنة في طقوسهم، وأنهم ما اختلفوا عنّا إلا كمثل اختلافنا عنهم، فلم يكن تمسّكهم بما لديهم رفضاً لِما في أيدينا، مثلما لم يكن تمسّكنا بما لدينا رفضاً لِما في أيديهم، بل أمرهم وأمرنا اختلاف ثقافات، وتسليم بغيبيات، وتأثير لحضارات، واتساق مع بيئات.
وإذا لم يكن هذا أو ذاك، فما الذي يضيرنا في اتباع المختلف عنا منظومةً أخلاقيةً وسلوكيةً نابعةً من عقيدة يعتنقها أو فلسفة يتبنّاها؟! ففي نهاية اليوم كما يقولون، أنت في مأمن ممن ينقاد لعقيدة أو فلسفة تهذّب سلوكه، وتحثه على معاملة الناس بالحسنى.
وقد تفتق ذهن بعض المحبّين للتسامح عن فكرة تتلخص في أنه لا شيء يدعو لمعاداة المختلف، لكنه مع هذا ضالٌ أو كافرٌ. وبحسب هؤلاء، فالحكم على المختلف بالضلال والكفر يستند إلى حكمه هو علينا بالميل عن اعتقاده والانحراف عن دينه! وأعتقد أن هذه الفكرة ضعيفة، فالمعاملة بالمثل تصح في التعامل وليس في الاعتقاد، ذلك أن التكفير ليس من شأن كافة الأديان، كما أن النتائج المترتبة عليه مختلفة من دين لآخر، فثمة فرق بين من يعتقد بصواب عقيدته وخطأ عقيدة غيره، ولا شيء أكثر من ذلك، وبين من يعتقد بأن غيره على خطأ ولابدّ من هدايته أو كراهيته أو معاداته.
التسامح لا يكون إلا مع الذي تشعر مِن داخلك بأنه مختلف عنك، وأنّ اختلافه عنك كاختلافك عنه، يستند إلى عوامل مكتسبة وظروف خارجية، لا عن عناد وجحود، إذ جحود الحق لا يكون إلا بعد استيقانه، ومحلّ الاستيقان القلب، ولا يعلم ما في القلوب إلا خالقها.‏?