من بين أنواع الأمراض التي تصيب أفراد الجنس البشري، توجد مجموعة منها تعرف بأمراض الثراء أو أمراض الأغنياء (Diseases of Affluence)، وتضم على سبيل المثال وليس الحصر: السمنة، والسكري، وأمراض القلب، والأمراض السرطانية، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض المناعة الذاتية، والربو الشُعبي، والاكتئاب، وغيرها.
وإذا ما خصصنا بالحديث هنا داء السكري، وبالتحديد النوع الثاني منه، فسنجد أن أعداد المصابين به في تزايد مستمر، من 108 ملايين عام 1980 إلى 422 مليوناً عام 2016، مع التوقع أن يتخطى عدد المصابين حاجز النصف مليار بحلول عام 2030. وبذلك أصبح السكري أحد أهم الأمراض المزمنة في العصر الحديث، وأحد أهم أسباب الوفيات. حيث يحتل السكري حالياً المرتبة الثامنة على قائمة أسباب الوفيات، متسببا في 1.5 مليون وفاة سنوياً، وهو الرقم الذي يرتفع إلى 4.9 مليون وفاة، إذا ما أخذنا في الاعتبار الوفيات غير المباشرة مثل أمراض القلب والشرايين، والفشل الكلوي، وغيرها.
ويتم علاج السكري من خلال اتباع نظام غذائي معين، وبممارسة التمارين الرياضية بانتظام، والعديد من الأدوية والعقاقير الطبية المختلفة، مثل هرمون الأنسولين، والذي يقدر أنه بحلول عام 2030 سيعتبر وسيلة العلاج الأساسية لأكثر من 80 مليون مريض من مرضى السكري حول العالم. إلا أن هذا العلاج الفائق الأهمية لجزء كبير من مرضى النوع الثاني من السكري، وجميع مرضى النوع الأول، أصبح توافره لهؤلاء المرضى، خلال العقد القادم وما بعده، ليس مضموناً أو مؤكداً، على حسب دراسة نشرت في العدد الأخير من إحدى الدوريات الطبية المرموقة المتخصصة في أمراض الغدد الصماء.
فعلى حسب هذه الدراسة، ما يقارب من نصف المرضى الذين يحتاجون إلى الأنسولين لن يتمكنوا من الحصول عليه، وذلك على خلفية أن واحداً من كل اثنين من مرضى النوع الثاني لا يتوافر لهم الأنسولين حالياً. وترد هذه الأزمة العالمية من نقص الأنسولين إلى سببين رئيسيين: الأول هو سعر العقار، والسبب الثاني هو احتياج شبكات توزيعه وإيصاله للمرضى إلى بنية تحتية من سلسلة التبريد، المتواصلة وغير المنقطعة بالمرة، والتي يجب أن توفر أيضاً للمرضى الحقن والإبر اللازمة لحقن العقار تحت الجلد.
ولكن كيف لعقار عمره قرابة المئة عام، اعتبر عند اكتشافه بأنه أحد العقاقير المعجزة التي غيرت وجه الطب الحديث بشكل جذري، أن يكون مرتفعاً أو باهظ السعر للكثيرين؟ وخصوصاً على خلفية أن العالمين اللذين اكتشفاه عام 1922 في جامعة «تورنتو» الكندية، باعا حق الاختراع والملكية الفكرية للجامعة بدولار واحد فقط، كمبلغ رمزي ليس إلا. ويعتبر الأنسولين من العقاقير مرتفعة السعر للكثيرين، والباهظة الثمن لمحدودي الدخل والفقراء. ويعتبر أحد أسباب ارتفاع السعر حقيقة أن 99 في المئة من سوق الإنتاج العالمي والمقدر سنوياً بـ21 مليار دولار (77 مليار درهم) تستحوذ عليه 3 شركات فقط من شركات الأدوية العملاقة متعددة الجنسيات، وفي الكثير من الدول تحتكر هذه الشركات السوق المحلي بنسبة مئة في المئة. وفي بعض هذه الدول، قد يبلغ سعر زجاجة أو قارورة الأنسولين، والتي تحتوي على كمية تكفي المريض بضعة أسابيع فقط، حوالي 130 دولاراً أميركياً، وهو ما يعتبر عبئاً مالياً محسوساً، في ظل حقيقة أن غالبية المرضى يحتاجون إلى الأنسولين طوال حياتهم. ولذا تسعى الكثير من دول العالم، وبالتحديد 90 دولة من مجموع 130 دولة لخفض سعر الأنسولين من خلال إعفائه التام من الجمارك والضرائب، إلا أن إضافة هامش ربح مرتفع من الوكلاء المحليين والموزعين، وتكاليف شبكة التوزيع التي يجب أن تكون مبردة دائماً، تؤدي في النهاية إلى رفع السعر إلى مستوى خارج نطاق قدرة الكثيرين.
ومما يزيد الموقف سوءاً، أن شركات الأدوية المتخصصة في إنتاج نسخ مماثلة من الأدوية والعقاقير الرائجة، والتي تعرف بالأدوية البديلة، لم تحقق نجاحاً يذكر على صعيد إنتاج نسخ «جنيسة» من الأنسولين، لكونه هرموناً معقداً، وأصعب في النسخ، مما يجعله ليس ذا جدوى اقتصادية لمثل تلك الشركات، والتي يرتكز نموذج الأعمال فيها على إنتاج نسخ أرخص ثمناً من الأدوية الأصلية، وإن كانت مطابقة لها تماماً من حيث التركيب الكيميائي والمادة الفعالة، وبجودة مماثلة أيضاً. ولذا ظل، وسيظل هذا العقار فائق الأهمية للحفاظ على حياة ملايين المرضى، والضروري لتجنبهم ملايين آخرين الوفيات المبكرة نتيجة المضاعفات الناتجة عن مرضهم، بعيد المنال عن الكثيرين حالياً، وهو الموقف الذي يتوقع له أن يزداد سوءاً خلال العقود المقبلة.