وفاة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب، يوم الأربعاء 30 نوفمبر، مناسبة حزينة عرفت جَيَشاناً كبيراً للعواطف لأسباب عدة. ذلك أن بوش كان في الـ94 من عمره، وكان آخر رئيس أميركي شهد قتالاً عسكرياً في الحرب العالمية الثانية ضمن قوات البحرية الأميركية (الرئيس جيمي كارتر، الذي يبلغ 93 عاماً، كان في البحرية الأميركية خلال السنوات اللاحقة من الحرب، لكنه كان يكمل تخرجه في الأكاديمية البحرية في أنابوليس).
كثير من الأميركيين يتذكرون بوش بسبب إنجازات عدة، لكن الموضوع الذي كان مركزياً في كل التصريحات والشهادات التأبينية التي قيلت في حقه يتعلق بأدبه، وتواضعه، وتفانيه في خدمة بلده. وعلى غرار ما كان عليه الحال مع وفاة السيناتور جون ماكين في وقت سابق من هذا العام، فقد كان يُنظر إلى بوش باعتباره رجلاً صاحب آراء ومواقف قوية، وشخصاً محافظاً على العموم، لكنه بمعايير اليوم يعد «معتدلاً»، إذ كان يعمل ويتعاون على نحو جيد مع الديمقراطيين، وكان محبوباً بشكل خاص خلال السنين الأخيرة من قبل ثلاثة رؤساء ديمقراطيين، هم جيمي كارتر، وبيل كلينتون، وباراك أوباما.
أبرز إنجازاته في السياسة الداخلية والخارجية تتعلق بحرب الخليج الأولى في عام 1991، وكذلك تعاطيه مع مرحلة تفكك الاتحاد السوفييتي وتداعياتها، وتوقيعه قانون الأميركيين ذوي الإعاقات سنة 1990.
كانت حرب الخليج في عام 1991 آخر مرة تقوم فيها الولايات المتحدة بمهمة عسكرية كبرى في الخارج مع دعم كامل تقريباً من جانب المجتمع الدولي بأغلبية أعضائه. فعقب قيام صدام حسين بغزو الكويت وإعلان ضمها، في أغسطس 1990، تعهد بوش بأن «هذا العدوان لن يستمر»، وقام بإرسال قوات عسكرية أميركية كبيرة إلى المنطقة، بمساعدة من الحلفاء العرب والأوروبيين المهمين، وبدعم سياسي من جانب الأمم المتحدة، وكذلك بقبول من الاتحاد السوفييتي، وبدعم مالي كذلك من بلدان آسيوية مهمة، في مقدمتها اليابان. الحرب لم تدم سوى بضعة أسابيع، وكان هدفها الرئيس، وهو إخراج الجيش العراقي من الكويت، قد تحقق بالفعل، لكن بعض المنتقدين اعتبروا أنه كان على القوات المتحالفة أن تفرض على العراق شروطاً أشد وأقسى بكثير، أو حتى أنه كان عليها مواصلة التقدم لتقوم بغزوه. غير أنه في ذلك الوقت لم يكن ثمة دعم دولي لمثل هذا العمل العسكري ضد سيادة بلد مستقل وعضو في الأمم المتحدة. وفضلاً عن ذلك، فقد جاء غزو بوش الابن (جورج دبليو. بوش) للعراق في عام 2003 ليظهر بجلاء مخاطر مثل هذا العمل.
لقد مثّل سقوط الاتحاد السوفييتي حدثاً دراماتيكياً، لكن الطريقة المتزنة وغير الاحتفالية التي تعاملت بها إدارة بوش فيما يخص العلاقة الدقيقة مع الأمين العام للاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشيف، هي التي مكّنت من أن يصبح سقوط الشيوعية عملية سلمية. وقد كانت فترة حكم إدارة كلينتون هي الفترة التي بدأت تتدهور فيها العلاقات مع روسيا، جزئياً بسبب النصائح الأميركية القوية بخصوص كيفية تطوير نظام رأسمالي، لكن بشكل رئيس بسبب جشع وعدم كفاءة الأوليغارشيين الروس الصاعدين الذين سمح لهم الرئيس يلتسن بالازدهار وجني مليارات الدولارات من نهب البلاد.
بوش انهزم في ترشحه لولاية رئاسية ثانية في عام 1992 أمام بيل كلينتون، وذلك لثلاثة أسباب. فعلى الرغم من الشعبية الكبيرة التي كان يتمتع بها في أعقاب حرب الخليج، فإنه بحلول عام 1992 كانت البلاد قد دخلت في ركود اقتصادي، وبدا بوش فاقداً للاتصال مع احتياجات الأميركيين العاديين وأمانيهم. ثانياً، واجه بوش تحديات كبيرة في الترشيح الجمهوري من المعلق السياسي الجمهوري المتشدد «بات بوكانان» والملياردير «روس بيروت» من تكساس. ثالثاً، المرشحان الديمقراطيان، بيل كلينتون وآل غور، كانا أصغر سناً من بوش بنحو جيل، وكانا يمثلان ناخبين أكثر شباباً وأكثر تطلعاً إلى المستقبل، وكانا يريان بأن 12 سنة من السيطرة الجمهورية على البيت الأبيض هي فترة كافية.
بوش تلقى هزيمة مذلة أمام كلينتون، لكن الرجل الذي ظل وفياً لخصاله كان دمثاً ودافئاً تجاه خلَفه الذي سيصبح لاحقاً أحد أقرب أصدقائه. غير أن العمق الحقيقي للرجل يمكن لمسه في الطريقة التي كان يعامِل بها موظفيه الأدنى مرتبة في العمل وخارجه. وكاتب هذه السطور يستطيع أن يشهد أنه من بين كل الأشخاص المهمين الذين عملت معهم خلال إدارة ريغان، فإن نائب الرئيس جورج بوش الأب كان الأكثر مراعاةً والأكثر حرصاً على الإنصات إلى النصائح بخصوص الشؤون والعلاقات الخارجية ممن هم أصغر منه سناً بكثير. ذلك كان أسلوبه: وقد كان معياراً حقيقياً للأدب، والتفكير العقلاني، وحب الوطن. والمؤكد أننا سنفتقده كثيراً.