سبق لإيمانويل تود، منذ ثلاث سنوات، وهو أحد علماء الاجتماع الفرنسيين الأشهر حالياً في الأوساط الفكرية والأكاديمية والسياسية والمنابر الإعلامية، أن أصدر كتاباً أحدث زوبعة، عنوانه «من هو شارلي سوسيولوجيا أزمة دينية»، إلى درجة أن الحكومة الفرنسية في شخص وزيرها الأول آنذاك «مانويل فالس» ردت عليه بمقال نُشر في جريدة «لوموند» بعنوان «ضد التشاؤم السائد والذين يريدون تناسي 11 يناير».
والكتاب يصف بذكاء سوسيولوجي قل نظيره، مبدأ التسامي الفرنسي، وبخاصة تسامي الطبقات الغنية على الدولة والمؤسسات والأفراد وباقي الطبقات، وهي التي كانت في الماضي تعارض الثورة الفرنسية ومبادئها وتحمل جذور الخلفية التقليدية الكاثوليكية. ثم إن هذا الإحساس يولد بعض التبريرات التي تحمل بذور العنف: «لقد رسمنا النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) دفاعاً عن مبدأ الحرية المطلقة لأي شخص في رسم ما يريد. نحن لا نزال نؤمن بحقنا في انتقاد كل الديانات، لكننا بقيادة هذه الفئة الميسورة والمهيمنة على المجتمع، نستهجن انتقاد قيمنا ومعتقداتنا المتحضرة، ونلجأ إلى (أولغارشية الحشود) لصناعة حق يحمل في طياته عنفاً تجاه الغير». والمعنى الأصيل لهذا التحليل هو أن هذا الاستعلاء الطبقي والاستخفاف بالفئات الأقل يسراً وتواجداً في المؤسسات النافذة للدولة، يعني سوسيولوجياً أن «السخرية من الإسلام هي محاولة إذلال للأقلية الأضعف في المجتمع». بمعنى أن المسلمين هم في الطبقة الأدنى من المجتمع ورسم رسولهم الكريم كاريكاتورياً هو جزء من هاته العملية الاستخفافية، في تحالف مع التيار العلمي المتطرف الذي ينظر للمسلم كمتطرف وإرهابي.
ولعمري فإن نفس الكلام يمكن قوله اليوم عن مظاهرات أصحاب السترات الصفراء في فرنسا، إذ لو أمعنا النظر في هذه التظاهرات العاتية، لرأينا أنه من أسبابها، امتعاض الفرنسيين من الاستعلاء الطبقي والاستخفاف بالفئات الأقل يسراً وتواجداً في جهاز الدولة الفرنسية وهم كثر.
بسبب الاستعلاء الأيديولوجي والطبقي والمجتمعي، فإن فرنسا لم تعد بخير، فهي تعاني من مشكلات مستعصية: أزمة اليورو، الدَّين العمومي، تبعات الأزمات الاقتصادية، أزمات مجتمعية خطيرة.. كما أن هناك أزمة قيادة في فرنسا وأزمة مؤسسات. وهي الأعراض ذاتها التي كتب عنها مؤرخو الثورة الفرنسية عام 1789، فقد عانى النظام الملكي من ظرفية اقتصادية خانقة أدت إلى نقص المواد الاستهلاكية الأولية والارتفاع الصاروخي للأسعار، وفي 14 يوليوز 1789 وصل ثمن الخبز إلى أعلى مستوياته، فحاولت فرنسا استيراد تلك المواد، لكن خزينتها كانت فارغة. الدولة الفرنسية كانت دائماً تعتبر نفسها دولة قوية، فتنفق أكثر من مداخيلها، وكان لهذه السياسة نتائجها السلبية.
في تلك الفترة، وقبلها بقرنين، عاشت فرنسا في مديونية فائقة، حيث توزع الربع لأصحابها، كما كانت فرنسا آنذاك دولة القانون العرفي: الاستثناءات الضريبية، توزيع المصالح.. واضعةً الثروة في أيدي فئة من الأرستقراطيين والدينيين، كما أن مدير المالية الملكية القوي في تلك الفترة «نيكر» ‏(Necker) موَّل الحرب الفرنسية الأميركية وقرض المال من بعض المصارف الهولندية والإنجليزية. وفي مرحلة رد الدين، قضت الفوائد على ميزانية فرنسا، كما حدث مع بريطانيا التي عانت آنذاك من المشاكل نفسها، لكن جورج الثالث تعاون مع وزيره الأول بيت Pitt ودعمَا معاً سياسات تقشفية إلى أن قضيا على الأزمة، خلافاً للملك لويس السادس عشر الذي لم يمد يد المساعدة لمدير المالية الملكية مخافة رد فعل الأرستقراطيين، دون أن ننسى عدد الساكنة في بريطانيا (8 ملايين نسمة) مقابل 22 مليون نسمة في فرنسا آنذاك. فالإصلاحات المالية مرت بسهولة في بريطانيا خلافاً لفرنسا التي وصلت إلى مأزق سياسي خطير.
الدولة الفرنسية آنذاك، مثلما هي اليوم؛ فقدت قدرتها على إحداث التوازن المالي، مع فارق بسيط هو أنه في تلك الفترة كانت الدولة تحت رحمة المستفيدين من اقتصاد الريع الطامعين في الخزينة العامة، أما اليوم فالدولة تخضع لنخبة من السياسيين. وحسب العديد من المحللين النابهين، فإن حكومة ماكرون ليست في الحركية السياسية الصحيحة، وربما دخلت مستنقع الدفاع الظرفي عن النفس، وهذا ما يهدد السلم المجتمعي الفرنسي.