تشهد العديد من المدن الفرنسية وخصوصاً العاصمة باريس، احتجاجات عارمة امتزجت كثيراً بالعنف والتخريب، نتيجة زيادات متتابعة في الضريبة المفروضة على أسعار وقود السيارات. ورغم أن أحد أسباب فرض الحكومة الفرنسية لهذه الضريبة كان لاعتبارات مالية، مثل إبقاء العجز في الموازنة الفرنسية تحت حد 3 في المئة، حسب اشتراطات الاتحاد الأوروبي، إلا أن السبب الأهم كان خفض الاعتماد على الوقود الأحفوري، كجزء من سياسة أشمل وأوسع لخفض انبعاث الغازات المسؤولة عن الاحتباس الحراري والتغير المناخي.
وهو ما فسره المحللون على أنه قرار اتخذه الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، للإثبات لقادة العالم أنه من الممكن للساسة اتخاذ قرارات اقتصادية، وسياسية، صعبة وغير مقبولة شعبيا، إذا ما كان للعالم أن يكون جادا على صعيد جهود مكافحة التغير المناخي المرتقب. وغني عن الذكر هنا أن هذا القرار ارتد على صاحبه، وأتى بنتائج عكسية، وصفها وزير المالية الفرنسي بأنها كارثة اقتصادية بكل المقاييس. مما أجبر الحكومة الفرنسية على التراجع عن قرارها، وتأجيل الضريبة لمدة 6 شهور على الأقل، وهو ما اعتبره الكثير من المدافعين عن البيئة والناشطين في مجال مكافحة أسباب التغير المناخي، بكارثة مناخية هائلة، سيدفع الفرنسيون وباقي أفراد الجنس البشري ثمناً فادحاً لها في المستقبل.
ففي الوقت الذي يتخذ فيه الكثير من النقاش والجدل الدائر حول الضرائب المفروضة على الوقود الأحفوري -والتي تندرج تحت المفهوم الأوسع المعروف بضريبة الكربون- منحى اقتصادي، نجد أن التبعات الصحية المرتبطة بالتغير المناخي لا تحظى بالقدر الكافي من الاهتمام، بين قادة العالم وواضعي السياسات، وفي العقل الجمعي للأفراد والشعوب. هذه التبعات الصحية، يمكن إدراك حجمها وفداحتها من التقديرات التي تشير إلى أن تطبيق الاتفاق الدولي لخفض انبعاث غازات الاحتباس الحراري، والمعروفة باتفاقية باريس، يمكن له أن ينقذ حياة مليون شخص بحلول عام 2050، من خلال خفض تلوث الهواء فقط. وهو ما يعزز الإيمان الراسخ بين العلماء والخبراء، بأن الفوائد الصحية التي ستحصد من مكافحة التغير المناخي والتلوث بجميع أشكاله، سينتج عنها وفر مالي وفوائد اقتصادية، تبلغ ضعف التكلفة المالية والاقتصادية اللذين سينتجان عن الإجراءات والتدابير الدولية اللازمة لوقف الاحتباس الحراري ومنع التغير المناخي، وهو الوفر الذي سيزيد عن الضعف في بعض الدول، مثل الهند والصين.
ومن المفارقات الغريبة، أنه في خضم الاحتجاجات الفرنسية، وبالتحديد في الخامس من الشهر الجاري، أصدرت منظمة الصحة العالمية تقريراً، تضمن توصيات مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي (COP24)، والذي عقد في مدينة «كاتوايس» البولندية، واشتمل على النقاط الأساسية الداعمة لفكرة أن الاعتبارات الصحية لا بد وأن تشكل محوراً أساسياً في جهود مكافحة التغير المناخي.
إحدى هذه النقاط التي ترسم مجمل الصورة العامة في العلاقة بين التغيرات المناخية والصحة العامة، حقيقة أن تلوث الهواء يتسبب في الوفاة المبكرة لسبعة ملايين شخص سنويا. وهو ما ينتج عنه تكلفة اقتصادية عالمية تزيد عن 5 تريليونات دولار، في شكل الفاقد الناتج عن ضياع الإنتاجية المفروضة لهؤلاء الملايين السبع، ومن خلال تكلفة الرعاية الصحية التي احتاجوها قبل وفاتهم، بسبب مرضهم الناتج عن تلوث الهواء، بالإضافة إلى التعويضات والمساعدات الاجتماعية نتيجة عجزهم وإعاقاتهم خلال فترة مرضهم. وعلى المستوى الوطني، وبالتحديد في الخمسة عشرة دولة الأكثر إنتاجا للغازات المتسببة في ظاهرة «البيت الزجاجي»، يُقدر أن تلوث الهواء يتسبب في تبعات صحية تُفقد هذه الدول أكثر من 4 في المئة من مجمل الناتج الاقتصادي السنوي لشعوبها، هذا في الوقت الذي يقدر فيه أن تحقيق أهداف اتفاقية باريس، سيتسبب في فقدان 1 في المئة فقط، من مجمل الناتج الاقتصادي العالمي.
ولذا قد ينظر البعض لاتفاقية باريس، على أنها ليست فقط اتفاقا متعلقا بالمناخ، ذا جوانب اقتصادية، بل ربما أيضاً أحد أهم الاتفاقيات الصحية الدولية في القرن الحادي والعشرين، وذلك على خلفية تراكم الأدلة التي تشير إلى أن وقع التغيرات المناخية، وتأثيراتها الخطيرة على الحياة الإنسانية، وعلى مستويات الصحة ومعدلات المرض، أصبحت واقعا ملموسا، وخطراً داهماً يهدد المكونات الأساسية للتمتع بصحة جيدة، مثل الهواء النقي، والمياه الصالحة للشرب، وإمدادات الغذاء، والمسكن الآمن، وهو ما من شأنه أن يقوض عقودا من الإنجازات الدولية على صعيد الصحة الشخصية والعامة.