تدخل حركة «السترات الصفراء» الاحتجاجية في فرنسا شهرها الثاني. فللسبت الرابع على التوالي، خرج محتجون يرتدون سترات صفراء عاكسة للضوء عبر مدن البلاد. وفي باريس، أدت الاضطرابات والاشتباكات مع الشرطة إلى اعتقال المئات، وإنْ كانت أسوأ مظاهر العنف – مثل تخريب «قوس النصر» الأسبوع الماضي - لم تتكرر هذه المرة. ولكن ثمة ثمناً متزايداً: فقد تدنت شعبية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكثر وسط الاضطرابات، بينما تلقت السياحة في فترة أعياد الميلاد المزدحمة تقليدياً ضربة موجعة. فيوم السبت، أبقى برج إيفل وعدد من متاحف باريس الكبيرة أبوابها مغلقة، بينما حذّرت الحكومة من «التأثير الخطير» الذي ألحقته الاضطرابات بالاقتصاد.
ولكن المحتجين لا يبدو أنهم سيتوقفون عن الاحتجاج قريباً. فـ«ما بدأ كمعارضة لضريبة كربون تهدف إلى كبح تغير المناخ، تحول إلى ثورة للطبقة العاملة ضد ماكرون»، كما يشرح زميلي في «واشنطن بوست» جيمس ماكولي.
الحكومة الفرنسية علّقت ضريبة الكربون الأسبوع الماضي، ما دفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتعليق المقرون بنوع من التشفي على التزام ماكرون المحكوم عليه بالفشل تجاه أجندة مناخ. ولكن ذلك لم يقلّص من غضب المحتجين، الذين عبّروا عن غضب أكبر من أسلوب حكم «ماكرون» المتعالي وإصلاحاته الاقتصادية التي يُنظر إليها على نطاق واسع باعتبارها تفيد الأغنياء فقط.
وهناك مؤشرات منذ الآن على أن النشطاء بدأوا يُلهمون مظاهرات مماثلة في بلدان أخرى. ففي عطلة نهاية الأسبوع الماضي، تم توقيف أكثر من 400 شخص في احتجاجات مناوئة للحكومة في بلجيكا وجدوا في «السترات الصفراء» مصدرَ إلهام لهم. وفي بريطانيا، ارتدى أفراد من الحملة المؤيدة لبريكست سترات صفراء خلال مسيرة لليمين احتجاجاً على ما يزعمون أنه «خيانة» من قبل الحكومة لأنصار «بريكست» في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي.
في فرنسا، تُبرز الاحتجاجات الانقسام بين المراكز الحضرية الغنية والحيوية و«فرنسا الأخرى» – أي تلك المدن التي كانت صناعية في يوم من الأيام، وتلك القرى الريفية التي هجرها سكانها بسبب قلة الفرص وركود الاقتصاد. «فبسبب ارتفاع الإيجارات والأسعار والضرائب، وارتفاع مستويات البطالة في المناطق الريفية وشبه الحضرية، وتفشي الهشاشة الاجتماعية، وركود الأجور، وحّدت حركة السترات الصفراء الناسَ من كل الجبهات السياسية حول أرضية مشتركة: غضب كل من بالكاد يستطيع كسب قوت يومه»، كما تقول الصحفية الفرنسية بولين بوك.
هذا الشعور بانعدام الأمن الاقتصادي في المناطق النائية قد يكون مألوفاً بالنسبة لمراقبي المشهد السياسي في بريطانيا والولايات المتحدة. فقد مثّل الشرارة التي أشعلت الدعم لترامب في العديد من ولايات الغرب الأوسط، والمراكز الصناعية السابقة التي عانت جراء اختفاء مطرد للوظائف الصناعية. وكما كتب جون جوديس في مقال في مجلة «واشنطن بوست ماجازين» في عطلة نهاية الأسبوع، فإن الناخبين الذين كانوا سيعرّفون أنفسهم في الجيل السابق باعتبارهم جزءاً من مصنعهم أو نقابتهم أو طبقتهم العاملة، باتوا اليوم يجدون وظائفهم قد اختفت، ونقاباتهم ضعفت، وأحياءهم هُجرت.
ووسط مشاعر اليأس والضياع التي تستبد بهم، يقول «جوديس»، يتشبث أولئك الناخبون بـ«الهويات» التي تخدم وتدعم الخطاب المتشدد والعنصري. ويقول جوديس: «تتضافر مع هذه الهويات هويات أخرى متجذرة في مشاعر الاستياء: تجاه المهاجرين غير الشرعيين إذ يعتقدون أن الضرائب التي يدفعونها تُستخدم في دعمهم، وتجاه كل من المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين الذين ينظرون إليهم على أنهم يقلبون تقاليد ولغة مدنهم، وتجاه تلك النخب البعيدة في المدن التي تبدي ازدراء تجاههم وتجاه نمط عيشهم».
التصويت لبريكست في 2016 مثّل تكراراً لمجموعة مماثلة من الشكاوى والشكوك بين البريطانيين – وخاصة الاستياء من «النخب البعيدة» التي تتحكم في حيواتهم. وكان ماكرون، الذي ينظر إليه اليوم منتقدوه باعتباره تكنوقراطياً بعيداً ومنفصلاً عن هموم الشعب، قد وصل إلى السلطة كشخص قادم من خارج المؤسسة عاقد العزم على تحريك المؤسسة السياسية الفرنسية وزعزعتها. ولكن جهوده الرامية إلى الإصلاح أدت في الغالب إلى تأجيج نيران الاستياء العام.
بعض الخبراء يخشون رد فعل قوياً مماثلاً في وقت تتعثر فيه بريطانيا نحو أزمة قد تكون كارثية بسبب «بريكست»، ذلك أن «تصويت بريكست 2016، وعلى غرار انتخاب ماكرون والاحتجاجات المناوئة له اليوم، مثّل رفضاً للنظام السياسي القائم واستياءً كبيراً من الوضع الراهن»، كما كتبت تيريز رافاييل في خدمة «بلومبيرج» الإخبارية.
وختاماً، فإن الاحتجاجات في فرنسا تسلّط الضوء على جو من الأزمة وعدم اليقين الذي بات يخيم على المجتمعات الغربية. فاتساع التفاوت الاقتصادي وتعمق الاستقطاب السياسي أخذا يضعفان الديمقراطيات التي بُنيت عبر عقود من السياسة القائمة على التوافق والاعتدال. ورغم أن الاحتجاجات والاضطرابات الجماعية هي جزء من الحمض النووي لفرنسا، كما يكتب بنجامن حداد في «بوليتيكو أوروبا»، فإن «ثمة شيئاً مختلفاً» بشأن عنفوان وتعبئة «السترات الصفراء»، الحركة التي باتت تدعو للتساؤل بشأن «استقرار المؤسسات الديمقراطية» نفسها.
*صحفي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»