كان الرومان يقولون إن «صخرة تاربيان» (حيث كانوا يعدمون السجناء) قريبة من «الكابيتول» (مركز السلطة). بعبارة أخرى، إن تحقيق نجاح كبير يمكن أن يعقبه بسرعة سقوطٌ عنيف. وهذا هو ما حدث نوعاً ما لإيمانويل ماكرون.
ففي مايو 2017، انتُخب ماكرون لرئاسة الجمهورية الفرنسية بأغلبية 66 في المئة من الأصوات. فصوّرته مجلة «ذي إيكونوميست»، أسبوعية النخبة المعولمة، على غلافها وهو يمشي على الماء. فقد كان يُنظر إلى ماكرون باعتباره الرجل الذي سيعيد إطلاق أوروبا وسيعارض كل الحركات الشعبوية. ولكن هذا الأسبوع، كانت صورة «قوس النصر» مخرباً هي التي احتلت غلاف المجلة نفسها. وفي شوارع فرنسا، كان هناك آلاف الأشخاص الذين يهتفون: «ماكرون، استقالة!».
فكيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ الواقع أن نجاح الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية أنسانا، بكل تأكيد، نتيجة الجولة الأولى. ذلك أن قرابة نصف الناخبين كانوا قد صوّتوا لصالح ناخبين معارضين للعولمة، وخاصة المشروع الأوروبي. وكنتُ قد كتبت في هذه الصفحة أنه إذا لم يتمكن ماكرون من التوفيق بين «الفرنستَين»، فرنسا التي تعتبر نفسها فائزة ومستفيدة من العولمة، وفرنسا التي تعتبر أنها خاسرة ومتضررة منها، فإنه لن يمر وقت طويل قبل أن يواجه المشاكل.
والواقع أن الوضع في فرنسا لا يختلف كلياً عن وضع المملكة المتحدة (بريكست) أو الولايات المتحدة (انتخاب ترامب). فقد أظهرت حملة الانتخابات الرئاسية لـ2017 بالفعل بلداً منقسماً على نفسه بشكل عميق، بين الراضين عن أحوالهم، وأولئك الغاضبين الذين يعتبرون وضعهم غير عادل. واليوم، تعبئة العمال الذين يكسبون القليل هي التي جعلت الرئيس الفرنسي يواجه مشكلات.
الإجراءات الأولى التي اتخذها إيمانويل ماكرون كانت تتعلق بالتنافسية الاقتصادية لفرنسا، ولكنها أغفلت تقليص الفوارق الاجتماعية. وفضلاً عن ذلك، فإن ماكرون «ألصق» بنفسه صورة «رئيس الأغنياء». ومما زاد الطين بلة بعض تصريحاته التي اعتُبرت مهينة للطبقات الأقل حظاً والتي لم تزد المشكلة إلا سوء. وعلى نحو باغت كل المراقبين، اكتشف أكثر الفقراء فقراً قوتهم الجديدة، وساعدتهم في ذلك إلى حد كبير وسائلُ التواصل الاجتماعي وقنوات الأخبار المتواصلة.
فاضطر إيمانويل ماكرون للقيام بانعطافة مهمة من خلال إعلانه عن حزمة من الإجراءات الاجتماعية المهمة. ولكن، هل ستكون هذه الإجراءات كافية من أجل إخماد مشاعر الغضب وعودة المياه إلى مجاريها؟ لا شك أن جذوة التعبئة ستخفت وتضعف، ولكن من دون أن يعني ذلك انطفاءها واختفاءها.
هذه التعبئة تذكّرنا بأنه لا يمكن مباشرة الإصلاح ضد رأي الشعب، وبأن الأقل حظاً يستطيعون إسماع أصواتهم وإعاقة حركة البلاد إذا كان لديهم شعور بأنهم لا يلقون الاحترام وأنهم يُتجاهلون. وفي الأثناء، تُواصل وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات الأخبار المستمرة نشر وتضخيم أصوات المحتجين.
صورة فرنسا في العالم تأثرت كثيراً. ذلك أن صورة العنف لديها دائماً وقع أقوى من الواقع. ونتيجة لذلك، قام عدد كبير من السياح الأجانب بإلغاء حجوزاتهم في فنادق باريس الفخمة. وعبّر دونالد ترامب عن سروره صراحة إزاء صعوبات رئيسٍ فرنسي بدأ يصبح مُعارضَهُ الرئيسي على الساحة الدولية، بعد أن كانت تجمعه به علاقة ممتازة في السابق. فهل فقد إيمانويل ماكرون كل هامش تحرك على الصعيد الدولي؟ في الوقت الراهن، هذا مؤكد، والأجندة الداخلية ستكون محور انشغال ماكرون الوحيد والرئيسي في المستقبل القريب. غير أن هذا لا يعني أنه لن يستطيع التعافي من تداعيات هذه الأزمة والوقوف على قدميه من جديد في غضون بضعة أسابيع. ولا شك أن صورة فرنسا قد تأثرت، ولكن بشكل عابر ومؤقت، وهي ستتعافى منها لأن الأخبار تلاحق الأخبار، كما يقال. والرئيس ماكرون قد يحاول الإمساك بزمام المبادرة من جديد والبحث عن نجاح دولي جديد.
وعلاوة على ذلك، فإن وصول زعيمة جديدة إلى قيادة «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» الألماني يمنح المستشارةَ الألمانية أنجيلا ميركل من جديد هامشاً للتحرك. إذ على الثنائي الفرنسي- الألماني تعتمد إمكانيةُ استقلال استراتيجي أوروبي، وهو هدف استراتيجي مركزي لإيمانويل ماكرون. والواقع أن الوزن الحقيقي لفرنسا لم يتأثر باحتجاجات ديسمبر، ولكن الأحداث التي تعرفها فرنسا منذ بضعة أسابيع تُظهر أن على الزعماء أن يعيروا الانتباه لحركات الرأي وأن التماسك الاجتماعي هو الشرط الأول لإشعاع دولي.