بدأت تظاهرات أصحاب السترات الصفراء في فرنسا في 17 نوفمبر الماضي، احتجاجاً على ارتفاع أسعار الوقود وعلى السياسات الاقتصادية لحكومة الرئيس إيمانويل ماكرون، لتمتد لاحقاً إلى الاحتجاج على غلاء المعيشة، ثم لتتحول إلى مطالبات باستقالة الرئيس نفسه، وحل الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات مبكرة. وجنحت الاحتجاجات نحو عنف غير مسبوق، حيث صرّح وزير الاقتصاد والمالية «برونو لو مير» قائلا: «تخسر باريس بالفعل ملايين اليوروهات بسبب المظاهرات المستمرة».
الإعلام العربي سارع لتشبيه احتجاجات أصحاب السترات الصفراء باحتجاجات «الربيع العربي» التي بدأت في تونس عام 2011، لتمتد شرارتُها إلى مصر وسوريا وليبيا واليمن، وكان محركها بالأساس غلاء المعيشة والأوضاع الاقتصادية المتردية، كما هي تقريباً أسباب تظاهرات السترات الصفراء.
وقد تراجعت الحكومة الفرنسية عن قراراتها بخصوص الضرائب وأسعار الوقود، لكن براكين الثورة الصفراء لم تهدأ حتى الآن، فما هي الآفاق المستقبلية للحكومة الفرنسية؟ وهل تتطور الاحتجاجات إلى ثورة اجتماعية على الجمهورية الفرنسية الخامسة؟
يشهد الاقتصاد الفرنسي حالة ركود ملحوظ، حيث لا يتجاوز النمو الاقتصادي نسبة 2%، في ظل وجود 3 ملايين عاطل عن العمل وزيادة كبيرة في المديونية، بينما يحاول الرئيس الفرنسي طرح حلول اقتصادية ضرورية لكنها صعبة. ولطالما وازنت فرنسا بصعوبة بين نظامها للرعاية الاجتماعية وسياساتها الاقتصادية الليبرالية. فبعد عام ونصف على انتخاب ماكرون رئيساً للجمهورية، ها هي خياراته الاقتصادية تواجه مقاومةً عنيفةً، وقد أدت حتى الآن إلى وفاة ستة متظاهرين ومئات الإصابات والاعتقالات. ويطلق المحتجون على ماكرون لقب «رئيس الأغنياء»، بسبب التدابير الاقتصادية التي أقرها؛ كإلغاء الضريبة على الثروة، وإلغاء ضريبة «التهرب المالي» للشركات وأصحاب رؤوس الأموال، وتعديل قانون العمل.. وهي تدابير لم تلقَ قبولاً لدى النقابات العمالية والطبقة المتوسطة، بل قوبلت سياسات ماكرون التقشفية، منذ بدء تطبيقها، بالرفض والاحتجاج. بيدَ أنَّ الاحتجاجات في بدايتها كانت مقتصرةً على فئة معينةٍ، كعمال النقل وموظفي القطاع العام، لكنها اتسعت لتضم كافة الشرائح المجتمعية، مما يظهِرُ حجم الغضب إزاء السياسات الاقتصادية لماكرون.
تاريخياً اتخذت فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية نموذجَ الديمقراطية الاجتماعية، وتبنَّت برامجَ حكومية للرعاية الاجتماعية لمواطنيها من المهد إلى اللحد، وأدى ارتفاع تكاليف برامج الرعاية الاجتماعية إلى التساؤل حول قدرَة الحكومة الفرنسية على تغطية هذه التكاليف المتزايدة عن طريق الضرائب وبدون إحداث اضطرابات اجتماعية، لاسيما أنَّ الإعانات الحكومية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياة نسبة معتبرة من الشعب الفرنسي وطبقَته العاملة، إلى جانب تكاليف الرعاية الصحية والتعليم. ولطالما كان موضوع تخفيض تكاليف البرامج الاجتماعية الحكومية موضوعاً حساساً، يُواجَه باحتجاجات وتظاهرات. فالرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي قام بتقليل أقساط البطالة وزيادة معايير الحصول عليها، لكن مقترحَاته وُوجهت بتظاهرات عنيفة.
وأخيراً استجاب ماكرون لمطالب المتظاهرين بتخفيف الضرائب عن العمال من ذوي الدخل المحدود، وإلغاء الزيادة الضريبية على معاشات المتقاعدين، وكرر وعودَه السابقة برفع الحد الأدنى للأجور، وإلغاء الضريبة عن ساعات العمل الإضافية ابتداءً من يناير 2019، وقال: «أتحمل جزءاً من مسؤولية الغضب الشعبي رغمَ أن جذورَ الأزمة الحالية قديمةٌ».
تواجه فرنسا أزمةً وطنيةً، فاستجابةُ ماكرون لمطالب المحتجين تعني إلغاءَ الإصلاحات الاقتصادية التي تبناها، وفي مقدمتها الإصلاحُ الضريبيُّ. إنها أزمة تضرب في جذور التوازن الفرنسي بين رأسمالية السوق والطبيعة الاشتراكية للجمهورية الفرنسية. لا يمكن تغيير الطبيعة الاشتراكية للدولة الفرنسية التي قامت دائماً على نظام الرعاية الاجتماعية، ولا يوجد مخرجٌ من الأزمة الاقتصادية دون دفع كلفَة اجتماعية. والحل السحري هو إيجاد مخرجٍ سياسيٍ ينعش الاقتصاد الفرنسي ويراعي في ذات الوقت حقوقَ الطبقة الاجتماعية الوسطى والفقيرة، وتلك هي معضلة فرنسا الحالية.