ونحن على مشارف 2019، يبدو أن العالم يبحث عن التفاؤل ويتوق إليه، وخاصة فيما يتعلق بمنطقة تسود فيها الصراعات كمنطقة الشرق الأوسط. حيث يمثل سكان هذه المنطقة حوالي 5? من سكان العالم، لكنهم وراء حوالي 17? من صراعاته، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. لذلك جاء اتفاق الهدنة والتهدئة الخاص باليمن كبارقة أمل تستحق ترحيباً شديداً. بل ذهب البعض في تفاؤلهم إلى أن العام الجديد قد يُمثل تغييراً في المسيرة من الحرب إلى بدء الحوار والشروع في مرحلة «مجتمعات ما بعد الصراع»، أي في برامج تضميد الجراح وبداية البناء. ويتكرر الحديث في هذا الصدد عن المأساة السورية وتغيير التوجه، داخلياً وخارجياً. فكل الأطراف تُعاني من الإنهاك والضعف المتزايد، مع يقين بأنه حتى النصر العسكري على الأرض ليس بالحل. وقد يكون سياق الإنهاك هذا من أكثر الظروف مواتاة لوقف الدماء وبدء المفاوضات الجدية.
وفي «حوار روما» الذي تناوله مقالُنا السابق، فقد استأثرت الأزمة السورية وآفاق الحل بالنصيب الأكبر، وذلك عن طريق تطبيق أحد أهم الأساليب العلمية لاستشراف المستقبل، ألا وهو أسلوب المحاكاة. وباختصار شديد فإن تطبيق هذا الأسلوب في مواجهة المشاكل السياسية هو مثل ما يقوم به المختصون في العلوم الدقيقة، مثل الكيمياء والبيولوجيا في معاملهم، أي تشكيل سياق محدد تتم السيطرة عليه وتجربة السيناريوهات المختلفة، ودراسة احتمالات نجاح أو إخفاق كل منها، وتكلفة كل سيناريو.
وبالنسبة للمحاكاة في الحالة السورية، فقد كان هناك حوالي 27 مشاركاً يمثلون الأطراف الأساسية في هذا الصراع: النظام السوري وحلفاؤه من روسيا وإيران و«حزب الله»، وخصوم النظام من أطياف المعارضة المختلفة من «داعش» إلى القوى العلمانية والديمقراطية إلى الولايات المتحدة. ولعل الدور الأصعب هو دور تركيا التي هي ضد نظام بشار الأسد، لكنها لا تسمح بتقوية المعارضة الكردية، بل تتدخل عسكرياً لمواجهتها ولمنع امتدادها إلى الداخل التركي، وهكذا يتسم الموقف التركي بالتذبذب، فهو يقول إنه يود هزيمة نظام بشار، لكنه في نفس الوقت يتعاون وينسق مع كل من روسيا وإيران، أهم حليفين للنظام السوري. التمثيل التركي في هذه المحاكاة كان صعباً بالفعل، ليس بسبب عدم إمكانياته، ولكن بسبب غموض وتناقضات موقفه والتحديات التي يواجهها ميدانياً.
وللتحكم في «لعبة السلام» هذه، كانت هناك مجموعة من ثلاثة خبراء، بينهم جيانلوكا ألبريني، المفوض الجديد لسوريا، وهو من وزارة الخارجية الإيطالية، وكان هناك أيضاً عشرة مراقبين، من جنسيات مختلفة أيضاً، يراقبون تطبيق قواعد «لعبة السلام» ويقومون أيضاً بتمثيل أطراف أخرى مثل الأمم المتحدة والجامعة العربية التي تلعب دوراً ثانوياً، أما مهندس هذه «اللعبة» ومن أدارها فكان جوناثان تيبرمان، رئيس تحرير مجلة السياسة الخارجية، ويعاونه هذا التجمع من أصحاب الخبرات الدولية المتابعة للأزمة السورية وتطوراتها. استمرت هذه المحاكاة أربع ساعات، ولم يتم الوصول إلى حل للأزمة السورية، أو حتى وقف الحرب.
غير أن تلك اللعبة كانت مفيدة، لأنها أظهرت بوضوح أهداف كل طرف، عوامل قوته وضعفه، أسلوب المفاوضات وتصعيد الصراع، ثم ما يستطيع كل طرف تحقيقه أو يخفق في تحقيقه رغم الموارد المستخدمة، وكلها عوامل أساسية في استشراف مستقبل هذا الصراع. وقد أورد «تيبرمان» في هذا الصدد تكاليف هذه الحرب، مادياً وبشرياً، وكذلك سيكولوجياً، على المستوى الوطني السوري وعلى المستوى الإقليمي، وهي معلومة أساسية عن قدرة كل طرف على الصمود واستعداده لتقديم تنازلات وقبول حل وسط. وقد يحدث تطور في الموقف يفضي إلى وقف لنزيف الدماء في وقت ما ليس بعيداً، حسبما توصلت إليه «لعبة السلام» هذه، خاصة فيما يتعلق بآفاق بناء سوريا بعد أن تصمت المدافع. وهكذا تُثبت المحاكاة فائدتها لاستشراف المستقبل في وقت يسود فيه الظلام الدامس وتقل فيه الرؤية.