ذكر الباحث «كونيهيكو مياكيه»، مدير البحوث في الشؤون الأمنية الخارجية والوطنية، «معهد كانون» للدراسات العالمية، باليابان، في محاضرة نظمها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الاثنين الماضي حملت عنوان «الخليج واستراتيجية اليابان في المحيطين الهندي والهادئ»: «أن التغيرات التي تحدُث في العديد من دول العالم، مثل: الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا وغيرها من الدول، تعود بشكل عام إلى أسباب مختلفة، مثل: استنهاض أطلال الإمبراطوريات القديمة، والقوة النووية، ولكن السبب الأهم في هذه التغيرات هو النزعة الوطنية القومية المُتطرِّفة في هذه الدول»، وأهمية السبب الأخير تأتي من كونه كما ذكر «مياكيه» يُظهر الجانب المظلم من حضارتنا من خلال انتفاضات واحتجاجات وثورات المنسيين في كل دول العالم، المتقدمة منها، والنامية، والمتخلفة.
قد يُفهم من الكلام السابق أن المدنيَّة المُعاصرة قد ضاقت علينا بما رحبت، ورغم هذا، فإن الأمر سيبدو هيّناً في حال وقوفه عند هذا الحد، لكن الواقع العملي يؤكد أن الأوطان وسعت مساحتها أم ضاقت، عَدَلت أنظمتها أو ظلمت، شاع فيها النور والعلم أو ساد فيها الظلام والجهل، عمَّها السلام أم اكتسحها العنف جميعها اليوم محل مساءلة من المَسْحُوقين أوَّلاً، ومن أبناء الطبقة الوسطى ثانياً، أولئك الذين مثلوا دائماً جدار الفصل الطبقي والقيمي بين الغنى والفقر، ما يعني أننا نتَّجه صوب ضيق في الأنفس والقلوب والعقول، مدمر وقاتل، ويظهر كلما تراجعت الدولة الوطنية عن أدوارها، أو حالت الحمولات والأعباء الاقتصادية والسياسية دون تحقيقها لخططها واستراتيجياتها.
هناك إذن، يظهر جانب مظلم يتعلق برؤى الشعوب لمصيرها، ولمسارات حركتها في الحياة، بغض النظر عن تطور مجتمعاتها وأوعيتها الثقافية، ومنظوماتها الأخلاقية، والأكثر من هذا قناعاتها الإيمانية، وهذا الجانب المظلم كما يرى الباحث كونيهيكو مياكيه يصنف اليوم ضمن المخاطر المدمرة للبشر في محليتهم من جهة، وفي علاقتهم مع الآخر من جهة ثانية، لأن ما يحصل اليوم داخل الدول جعل الطبقات المسحوقة خارج سنن التدافع والتعايش، وهو ليس شبيهاً بأيّ مرحلة من التاريخ البشري، بما في ذلك مراحل العبودية والإقطاع، كوْنه يقدم شعوراً وهمياًّ بالتحرر، لكنه يضع الناس بما فيهم الأُجَراء تحت ضغط القوانين والمؤسسات من جهة، وانفجار النزوات والشهوات من جهة ثانية، لذلك كله نحن اليوم في حاجة إلى إعادة النظر في المسألة الوطنية، وطرح أسئلة جوهرية من مثل: ما هو الوطن؟، وأي وطن نريد؟، وما علاقة الشعوب داخل أوطانها؟، وما موقف الطبقات سلماً وعنفاً من بعضها؟.. إلخ.
إن إجابات تلك الأسئلة ضرورية ومهمة للغاية، سواء أكانت محل اتفاق أو اختلاف، ذلك لأنها تُخْرِجُنا جميعاً من التسليم بوجود أمان كلي تحميه المنظومة القانونية وسلطة الدولة، وتدخلنا في تعايش نسبي يحكمه نوع من الشراكة المقبولة من أجل استمرارية الحياة، أمَّا مواصلة الترويج لمشاريع وطنية مغلقة على خلفية الخوف من استعراض الدول الكبرى الفاعلة في البر والبحر، أو حتى تدخلها بشكل مباشر في مصير الدول الصغيرة والمتخلفة والضعيفة، أو بمحاولة هذه الأخيرة طرح الوطنية في زمن التكتلات الكبرى بالتبعية المطلقة، أو بالرفض الكلي، فإن ذلك يجعل مصيرها ضياع الأوطان، مع مواصلة المعاناة والضنك والغبن، وربما تعميم الجانب المظلم لحضارتنا، كما فسره «مياكيه» في بداية المقال.