جلس "سيبويه" خلف الستار في مجلس أحد الخلفاء، وهو يستمع إلى أعرابي يلقي بأبيات من الشعر مدحاً للخليفة، فألحن الأعرابي في اللغة، ولم يستطع "سيبويه" الرد عليه احتراماً لمجلس الخليفة، فرجع قافلاً إلى داره متكدراً ممن ألحن في لغة الضاد، وهو من يعرف في ذاك الوقت بسيدها وصاحب السبق فيها، ولم يتقدم عليه أحد في زمنه، فقد ساءت حالته حتى قضى نحبه "شهيداً" للغة العربية. قادت اللغة العربية الحضارة العالمية قرابة أربعة عشر قرناً متوالية العدد ومتواصلة الأثر. ولم تكن يوماً عاجزة عن مواكبة متغيرات الحياة المتقلبة، وهي التي تولت حركة ترجمة من جميع الثقافات المنتشرة آنذاك، بل كانت الترجمة وسيلة فعالة في إطلاق سراح أسرى الحروب وخاصة في عهد المأمون. أما في العهد الأندلسي فقد كانت الدولة العربية الإسلامية منارة مشرقة ووجهة مفضلة لاستقبال طلاب البعثات الدراسية من قلب أوروبا، وكانت لغة العلم والتعلم هي العربية الفصحى في مختلف التخصصات التطبيقية منها والنظرية.
بل زاد عن ذلك، أن الطلبة الخريجين من الجامعات والجوامع الإسلامية، بعد عودتهم إلى ديارهم بدأوا يدرسون العلوم في مدارسهم ودور العلم باللغة العربية الفصحى، حتى أن الكنائس تدخلت وهي التي من المفترض ألا تتدخل في شأن التعليم لوقف البعثات الدراسية إلى أرض حضارة الأندلس، وقد تمكنت من ذلك، مع إصرار الطلبة على رفض التعليم بغير اللغة العربية في ديارهم الأصلية لشدة تعلقهم بها وشغفهم بالاستمرار في ذات النهج الذي تعلموا منه.
وبعد هذه الفترة بقرن تقريباً بدأ وعاء العربية للعلوم يضيق بأهله، وأصبح العرب أنفسهم يتذمرون وينتقدون لغتهم ويصفونها بالتخلف وصعوبة مسايرتها لمتطلبات العصر ومفرداته حتى تقدمت لغات الاستعمار على العربية، بل وتغيرت ألسن العرب إلى العجمة " لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ".
وقف أحد زاعمي دعاة القومية العربية في مؤتمر عربي أمام الحضور معتذراً عن ضعف اللغة العربية عنده بسبب نشأته في أميركا، فقام إليه أحد الضيوف موبخاً إياه كيف تتذرع بالقومية العربية وأنت فقدت هويتها اللغوية وقد أغرقتها في بحر اللغة الأجنبية.
دعاني يوماً المشرف على رسالة الدكتوراه ليعلمني عن ضرورة مشاركتي في إعداد ورقة علمية عن الفصول التي انتهيت منها وإلقائها كجزء من دراستي، فاعتذرت أمامه بضعف لغة الإلقاء مقارنة بلغة الكتابة العلمية، فأرشدني إلى ترك الاعتذار بهذا المبرر، لأن الوسط العلمي في الجامعة يدرك هذه الناحية وسوف يضعها في عين الاعتبار، ولن تجد من يسخر منك، لأن الأهم لدينا أنك تتقن لغتك العربية الأم، ولو لم تتقنها لكان في حقك عيباً كبيراً.
ثم سألني عن اللغات التي أتقنها من غير العربية والإنجليزية، فذكرت له أمثلة من الفارسية والهندية والباكستانية والمليبارية، وشيئاً من الفرنسية وبعض اللهجات المحلية من دول أخرى.
فعلق قائلاً: أنت في هذا الشأن أفضل مني بكثير، لأنني لا أتقن إلا لغتي الأم، وهناك أمر آخر يمس اللغة الإنجليزية بالذات، فلو أتقنت لغة "شكسبير" التي بحاجة إلى ترجمة حتى بالنسبة لي، فلن يعيرك هذا المجتمع أي اهتمام، لأنك مهما حاولت أنا أو أنت، لن نكون أفضل من شكسبير في اللغة.
لقد حظيت بشرف الحضور إلى مجلس صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان العلمي مرات، ففي إحداها كان المحاضر أميركياً مسلماً بدأ حديثه بقوله إنني لم أحاضر باللغة العربية مذ دخلت الإسلام، ولكني سأفعل ذلك اليوم، وأقولها لكم بكل صراحة فمن يفرط في لغة القرآن لا يستحق الحياة. كل أمم الأرض تعلم شعوبها بلغة الأم، وهي الوعاء الأصلي الذي تنقل من خلالها هويتها وثقافتها إلى الآخرين، أما الأوعية الأخرى فهي عوامل مساعدة لبناء جسور من التواصل ينبغي أن تستمر وتستثمر.
فلماذا عالم الضاد استثناء من ذلك، إن الاستهانة بلغته ووضعه في المرتبة الثانية من بعد اللغة الأجنبية لا يعطيه الحق في القيادة بعيداً عن لغتها الأم، فمن يتنازل عن أمه فلن تغني أمهات الآخرين عنه شيئاً، وإن ادعت احتواءهم وربتت على أكتافهم لفترة. صادف أحد التربويين طالباً لديه في إحدى المؤسسات ففرح بلقائه سائلاً: أنت تعمل هنا الآن، قال لا لقد رسبت في العربية قراءة وكتابة. زارت "ميركل" إسرائيل، وألقت خطاباً في"الكينيست"باللغة الألمانية بعد أن رفضت أن تلقيه بالعبرية ولا بالإنجليزية حسب القانون الإسرائيلي. فهل نعي حقيقة إعادة لحمة اللغة العربية للالتفاف حولها من جديد بعد سنوات من الانسلاخ عنها؟!
*كاتب إماراتي