ما زالت العلوم النقلية –أحد مكونات الموروث النقلي القديم- مسيطرة في الثقافة الشعبية، بل وأكثر تأثيراً من العلوم النقلية العقلية مثل: الكلام والفلسفة والتصوف والأصول.. وذلك بعد أن غاب تأثير العلوم العقلية الخالصة وتوقفت، كالرياضية، مثل الحساب والهندسة والجبر والفلك والموسيقى، والطبيعية مثل الأحياء والكيمياء والطب والصيدلة والنبات والحيوان.
ويخضع الموروث النقلي لسلطة النص وليس لسلطة العقل، لذلك أصبحت الثقافة نقلية لا عقلية، سلطوية لا برهانية، كما تكلست وأصبحت عائقاً أمام التجدد الحضاري.
لقد تحولت العلوم النقلية إلى علوم جامدة لا يجوز إخضاعها للفحص التاريخي والتحليل العلمي، فهي منزلة من السماء وليست صاعدة من الأرض، وهي عطاء وهبة من الله وليست تقنيناً وضبطاً وروايةً وفهماً وتحقيقاً من الإنسان.. خارجة عن الزمان والمكان مع أنها في الزمان والمكان بفعل «أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ»، وتطور الوحي من آدم عليه السلام حتى محمد صلى الله عليه وسلم طبقاً لتطور الوعي الإنساني في أحدث مراحله. فهناك المكي والمدني، التصور والنظام، العقيدة والشريعة.. وقد درسها القدماءُ كلَّها دراسةً علميةً في كيفية إعلانها وتدوينها وحفظها ونقلها ولغتها والألفاظ الأعجمية فيها.
وتحولت علوم الحديث إلى علوم غير قابلة للنقاش، دون دراية من البعض بأن الحديث الشريف هو أول تطبيق في الزمان والمكان للوحي في تجربة مثالية أولى، كنموذج استرشادي يعطي بعض التوضيحات النظرية أو التطبيقات العملية. وقد فصّل القدماء الرواية وميزوا فيها بين التواتر والآحاد، التواتر يقيني نظراً وعملًا، والآحاد يقيني عملاً وظنياً نظراً. لكن الأمر تحول في الثقافة العربية إلى جعل الرواية يقينية نظراً وعملًا. ومن شرط التواتر الاتفاق مع الحس ومجرى العادات. وفي الثقافة العربية أُسقط هذا الشرط فدخلت الخرافات. وركز القدماء على نقد السند ولم ينتبه المحدثون إلى نقد المتن. وأصبحت صحة الحديث مشروطة بسنده أي بروايته وليس بمتنه أي بموضوعه.
وتحولت علوم التفسير القديمة في الموروث الثقافي إلى فكر شارح لا يخرج عن النص المشروح. وهي أقرب إلى تحصيل الحاصل. ولا تفيد جديداً بالنسبة لأحداث العصر وزمن المفسر؛ إذ تعلّق على النص وتعرض وقائع وحوادث تاريخية أو تحليلات لغوية أو قواعد فقهية أو مبادئ كلامية أو تصورات فلسفية أو تأويلات صوفية. تعطي المعلومات دون العلم. وتقطعت الموضوعات عبر السور والآيات في تفسير طولي دون تجميع الآيات في موضوع واحد من أجل إعطاء تفسير عرضي يخترق الآيات من أجل وضع تفسير «موضوعي»، أي طبقاً للموضوعات وليس طبقاً للآيات. وهذه التحولات حرَمت  الثقافة العربية من إمكانية تكوين أيديولوجيا عربية أصيلة تتعلق بالفرد والمجتمع وبالنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. فوجد الناس البديل في الأيديولوجيات الوافدة من الغرب الحديث.

وظل علم الفقه القديم على حاله، معطياً الأولوية للعبادات على المعاملات، والمعاملات القديمة مثل الإجارة والمزارعة على المعاملات الحديثة كالعولمة والسوق. وظلت مفاهيمه القديمة قائمة مثل دار الإسلام ودار الحرب، الإسلام أو الجزية أو القتال.. رغم تغير العصر.
وهكذا، فقد أصبح الخروج من الجمود والتكلس بمثابة الشرط الأول للتجدد الحضاري العربي.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة