أن تنسحب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليس خبراً.. الخبر هو أن تُبقي على عضويتها فيه. ما كانت «الأوربة» جزءاً من التاريخ البريطاني، ولا كانت جزءاً من ثقافة البريطانيين. وقد أثبتت نتائج الاستفتاء على العلاقة مع الاتحاد الأوروبي الذي جرى في شهر يونيو من عام 2016 هذه الحقيقة. وقبل ذلك بعقود عديدة وتحديداً في سبتمبر 1931 انسحبت بريطانيا من اتفاقية اعتماد الذهب مقياساً، وفي سبتمبر 1992 انسحبت من نظام التبادل المالي.
وقبل هذه وتلك، في القرن الثالث عشر تمرّد الملك جون على البابا أنوسنت الثالث. ثم قام الملك هنري الثامن بفصل الكنيسة البريطانية كلياً عن الفاتيكان. وتكرّس الفصل في قانون صدر عن مجلس العموم البريطاني في أبريل 1533 أعطى الملك هنري الكلمة الأخيرة في «القضايا القانونية والدينية» على حد سواء، الأمر الذي يعني تحرير بريطانيا من أي تبعية أو سلطة بابوية خارجية!
صحيح أن عملية الانفصال عن البابوية قامت على أساس رغبة الملك هنري في تطليق زوجته «كاثرين»، عمة ملك إسبانيا في ذلك الوقت تشارلز الأول. وصحيح أن البابا رفض إعطاء الإذن بالطلاق حرصاً منه على علاقاته الشخصية مع العاهل الإسباني شديد النفوذ، لأن النتيجة كانت انفصال بريطانيا عن الفاتيكان الذي كان في ذلك الوقت رمزاً لأوروبا. والانفصال لم يكن انفصالاً دينياً فقط، ولكنه كان انفصالاً سياسياً أيضاً. عكس ذلك القانون الذي أقرّه مجلس العموم والذي نص على أن الإمبراطورية البريطانية يحكمها «رأس واحد وملك واحد»، أي لا بابا في ذلك الوقت، ولا الاتحاد الأوروبي اليوم.
وفي العصر الحديث في شهر مايو من عام 1950، عندما كانت أوروبا في بداية خروجها من تحت أنقاض الحرب العالمية الثانية، أعلن السياسي الفرنسي «روبرت شومان» إنشاء الاتحاد الأوروبي للفحم والصلب. وهما المادتان اللتان أشعلتا فتيل الحرب بين فرنسا وألمانيا.
وعندما دعيت بريطانيا للانضمام إلى الاتحاد عبّرت عن شكوكها بنوايا أصحاب المبادرة واتخذت منها موقفاً سلبياً. كان حزب «العمال» في السلطة آنذاك. وقد برّر رفض العرض على أساس أنه وجد فيه محاولة لمشاركة بريطانيا في سيادتها وفي صناعاتها المتقدمة.
كانت بريطانيا تعتمد في ذلك الوقت على قوتها البحرية، وعلى الكومنولث وعلى الدول الأنجلوفونية بما فيها الولايات المتحدة. إلا أن هذه القواعد الثلاث لم تعد صالحة في المعادلات الدولية الراهنة.
وفي ذلك الوقت أيضاً كانت بريطانيا تعتبر نفسها أب الانتصار على النازية، باعتبار أنها الدولة الأوروبية الوحيدة التي صمدت في وجه هتلر، وقادت من أرضها حركة تحرير أوروبا. فكيف «تُدعى» إلى الانضمام إلى مبادرة يتخذها الآخرون؟ مع ذلك تطورت معاهدة الفحم والصلب بسرعة لتصبح اتحاداً تتهافت الدول الأوروبية للانضمام إليه، خاصة بعد إقرار العملة الموحدة والحدود المفتوحة. ومع هذا التطور اضطرت بريطانيا إلى ابتلاع كبريائها والانضمام الجزئي إلى الاتحاد.. حتى تحولت لندن إلى عاصمة غير معلنة له نظراً لانتقال أكثر من ثلاثة ملايين أوروبي للعيش فيها والعمل في مؤسساتها المختلفة. كذلك يوجد في لندن وحدها عدد من الفرنسيين يفوق عددهم في العديد من المدن الفرنسية ذاتها. أدى هذا التغيير إلى قلق على «الذات البريطانية»، فكان الاستفتاء الذي انتهى بمطالبة 51 بالمائة من السكان بالانسحاب من الاتحاد، محافظةً على الشخصية البريطانية جراء تدفق المهاجرين من دول أوروبا الشرقية التي انضمت هي الأخرى إلى الاتحاد. كان حزب «العمال» في السلطة عندما فتحت أوروبا ذراعيها لاستقبال بريطانيا في أسرتها.. واليوم فإن حزب «المحافظين» يتولى سلطة إخراج بريطانيا من الحضن الأوروبي.
كان دخول بريطانيا إلى أوروبا مؤلماً، وتم رغم تردُّد حزب «العمال».. وسيكون خروجها منها أشد إيلاماً رغم انقسام حزب «المحافظين».