لا تكاد دولة الإمارات العربية المتحدة تحقق إنجازاً عالمياً في مجال من المجالات إلا وتتبعه بإنجاز آخر، بحيث غدت عنواناً للإنجاز المستمر الذي لا يتوقف، والذي لا يمكن ملاحقته على المستويات كافة، ليس بالمعايير العربية، أو الخليجية، أو الإقليمية فحسب، وإنما بالمعايير العالمية أيضاً، حتى إنني غير قادر على أن أصف حصول جواز السفر الإماراتي على المركز الأول بالعالم في ديسمبر 2018، وفقاً لمؤشر «Passport index»، ورفع نسبة تمثيل المرأة الإماراتية في المجلس الوطني الاتحادي إلى 50% ابتداءً من انتخابات عام 2019، بأنهما آخر الإنجازات الإماراتية في السباق نحو المركز الأول في العالم، لأن إنجازاً آخر يمكن أن يخرج إلى النور قبل أن يجد هذا المقال طريقه إلى النشر. وفي هذا السياق، فإنني لن أستغرق كثيراً في سرد تفاصيل المراكز الإقليمية والعالمية المتقدمة، التي حصلت عليها دولة الإمارات العربية المتحدة، وفقاً لتقارير التنافسية العالمية ومؤشراتها الصادرة عن المؤسسات الدولية المعنية، حيث يمكن للقارئ الكريم أن يتعرف إلى ذلك كلِّه عبر الاطلاع على موقع «الهيئة الاتحادية للتنافسية والإحصاء» في شبكة المعلومات الدولية «الإنترنت»، حيث تتيح الهيئة صورة مفصَّلة عن موقع دولة الإمارات العربية المتحدة في هذه التقارير والمؤشرات.
ما وراء «الاستثناء الإماراتي»
إن هذا الإصرار الإماراتي على المركز الأول، بالقول والفعل، يبهر العالم، ويجعله يتساءل: لماذا تحقق دولة الإمارات العربية المتحدة كل هذا النجاح والإنجاز برغم أنها تعيش في منطقة تعاني، بشكل عام، من التخلف والصراع وعدم الاستقرار؟ وما الأسباب التي تقف وراء حالة «الاستثناء الإماراتي» ضمن سياق إقليمي يعاني مشكلات التنمية وأزماتها؟ ولماذا تسبق دولة الإمارات العربية المتحدة دولاً كبرى وتتفوق عليها في مجالات التنمية؟
إن هذا التفوق الإماراتي يعود، من وجهة نظري، إلى الكثير من العوامل التي يمكنني التركيز على أبرزها وأكثرها أهمية في الآتي:
أولاً: القيادة صاحبة الرؤية والإرادة: إن الصورة النمطية، التي عُرفت بها دول الخليج العربية النفطية دائماً، هي أنها دول تملك ثروة كبيرة، وهذا هو السبب فيما تشهده من تنمية وتطور، خاصة على مستوى البنية التحتية، لكن التجربة الإماراتية تؤكد بجلاء أن القضية ليست قضية نفط أو ثروة فقط، على أهمية النفط الكبيرة في المسار التنموي لهذه الدول، وإنما قضية قيادة لديها رؤية للحاضر والمستقبل، ولديها طموح، وإرادة قوية لتحويل هذا الطموح إلى واقع، وتؤمن بأن الشعب هو أغلى ثروة، وأنه هدف التنمية، وأداتها في الوقت نفسه. هناك دول كثيرة في منطقتنا لديها نفط أكثر بكثير ممَّا لدى دولة الإمارات العربية المتحدة، ولديها موارد أخرى، طبيعية وبشرية، غير متوافرة لدى دولتنا، وأهمها العراق وليبيا وإيران وغيرها، لكن على الرغم من ذلك، فإن هذه الدول أهدرت ثرواتها، وأفقرت شعوبها، ولم تحقق عُشر ما تحقق على الأرض الإماراتية من تنمية وتقدم ورخاء. لماذا؟ لأنها، إضافة إلى عوامل أخرى، لم يكن لديها قيادة مثل القيادة الإماراتية، وإدارة سليمة للثروة من أجل البناء والتنمية والتقدم، مثل تلك التي توافرت في دولة الإمارات العربية المتحدة. إن الثروة مهمة في صنع التقدم، لكن العامل الحاسم هو كيفية إدارة هذه الثروة، ولذلك فإن المتعارَف عليه في علم الإدارة هو أنه ليس هناك دولة فقيرة، وأخرى غنية، وإنما هناك إدارة فقيرة، وأخرى غنية. إضافة إلى ذلك فإن الثروة يمكن أن تتحول إلى نقمة إذا تم توجيهها الوجهة الخاطئة أو استخدامها في غير محلها.
عندما يصبح التفوق هوية.
ثانياً: تحويل التفوق إلى هوية: بمعنى أن دولة الإمارات العربية المتحدة استطاعت أن تجعل التفوق جزءاً من هويتها الوطنية، بحيث بات المواطن الإماراتي يتطلع دائماً إلى المركز الأول إقليمياً وعالمياً، ولا ينظر إليه بصفته أملاً بعيداً أو مستحيلاً، وهذا نتيجة لتراكم الإنجازات، وتحويل المستحيل إلى واقع معاش، لأن القيادة الإماراتية لا تعترف بالمستحيل أصلاً، وترى أنه «أكبر سجن صنعه الإنسان لنفسه، وكلمة اخترعها من لا يريدون العمل، أو كلمة اخترعها لنا من لا يريدوننا أن نعمل، وهو كلمة يستخدمها بعض الناس لوضع حد لطموحاتهم، وأحلامهم وتطلعاتهم»، كما يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، في كتابه «ومضات من فكر».
تعزيز الثقة بالنفس
ثالثاً: الثقة بالنفس: لا يرتبط التقدم بتوافر مقوماته المادية فحسب، وإنما مقوماته المعنوية والنفسية كذلك، فالشعوب المهزومة نفسياً وغير الواثقة بنفسها وقدراتها لا يمكنها أن تحقق التفوق مهما توافرت لها الموارد. وقد لعبت القوى المعادية للعرب على هذا الوتر كثيراً خلال العقود الماضية، من خلال هزِّ ثقتهم بأنفسهم، وتكريس القناعة لديهم بأن موقعهم هو موقع المشاهد للمنجزات الحضارية للآخرين، أو المستهلك لها، وأن الفجوة بينهم وبين غيرهم من الاتساع بحيث لا يمكن جسرها، ما أشاع اليأس والإحباط في نفوسهم. لكن القيادة الإماراتية، منذ عهد المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ومن بعده صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، قدَّمت صورة مختلفة من خلال تعزيز الثقة بالنفس والقدرات، والإيمان بأن التقدم في كل زمان ومكان له أسبابه، والتخلف له أسبابه أيضاً، وفي كلتا الحالتين، فإن التقدم ليس حكراً على دولة أو شعب أو مجتمع دون غيره، وكذلك التخلف. ومن هنا أخذت دولة الإمارات العربية المتحدة بأسباب التقدم، واستفادت من تجارب غيرها في العالم ممَّن استطاعوا أن يخرجوا من ظلمات الفقر والجهل والتخلف إلى أنوار النهضة والتقدم والحضارة الحديثة، من خلال العلم والإدارة السليمة والرؤية الواضحة واستشراف المستقبل، والنظر إلى البشر بصفتهم مصدر الثروة الحقيقية، وصانعي التقدم والتطور.
حينما أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة خطتها الاستراتيجية «رؤية الإمارات 2021»، وقالت إن هدفها هو جعل الدولة من أفضل دول العالم في عيدها الوطني الخمسين، نظر الكثيرون في المنطقة والعالم إلى هذا الهدف بصفته أملاً صعب التحقيق، لكن الذي حدث أن الدولة حققت هذا الهدف قبل سنوات من المدى الزمني المخطَّط، ولم يعد هناك من يمكن أن يعترض، أو يشكك في أن دولة الإمارات العربية المتحدة قد غدت بالفعل من أفضل دول العالم، ليس بالكلام والشعارات والدعاية، وإنما بالمؤشرات والحقائق، وأنها تحولت إلى ظاهرة تنموية جديرة بالدراسة والتأمل. والأمر نفسه ينطبق على «مئوية الإمارات 2071»، التي تهدف إلى جعل دولة الإمارات العربية المتحدة أفضل دولة في العالم، وليس من أفضلها في مئوية إنشائها.
وإذا كانت القاعدة المنطقية تقول، إن النتائج ترتبط بالمقدمات، بمعنى أن المقدمات السليمة تؤدي إلى نتائج سليمة، والعكس صحيح، فإن دولة الإمارات العربية المتحدة قادرة بالفعل على تحقيق الهدف الذي وضعته لنفسها في مئوية 2071، لأن المنهج (المقدمات) الذي تسير عليه سليم، وهو نفسه الذي حققت من خلاله كل ما حققته من نجاحات وإنجازات عالمية خلال السنوات الماضية. لقد كان إنشاء دولة الإمارات العربية المتحدة في عام 1971، في حد ذاته، معجزة كبرى، لأن المعطيات كلها كانت تقول إن الوحدة مستحيلة، لكن الآباء المؤسسين لم يعترفوا بذلك، ومضوا في تحقيق الحلم، أو المعجزة، واثقين بأنفسهم وسلامة طريقهم، ولعل هذا ما بذر بذور الإرادة القوية، والإصرار على تحقيق الهدف والثقة المطلقة بالنفس في الوجدان الإماراتي، ما انعكس إيجابياً على مسار الدولة خلال العقود الماضية.
حالة فريدة من الاستقرار
رابعاً: الاستقرار: لا يمكن تحقيق التنمية والنهضة إلا في جو من الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني، وتعيش دولة الإمارات العربية المتحدة، منذ نشأتها في عام 1971، حالة فريدة من الاستقرار على المستويات كافة. فلم تعرف الدولة ما عرفته دول في المنطقة من احتقانات طائفية ومذهبية وعرقية ودينية، أو صراعات اجتماعية وفئوية، أو توترات سياسية، لأنها قامت على المواطنة، وسيادة القانون، والعدالة، والتنمية المتوازنة التي تصل ثمارها إلى كل أبناء الوطن في أي مكان على أرضه. وعلى الرغم من أن لدى دولة الإمارات العربية المتحدة برلماناً (المجلس الوطني الاتحادي) منذ عام 1972، أي في العام التالي لقيامها، فإنها لم تعرف الصدام بين البرلمان والحكومة، وإنما يسود العلاقة بينهما التعاون والتنسيق والعمل المشترك من أجل مصلحة الوطن والمواطن. وهذا كله جعل الدولة تركز جهدها على التنمية، وتوجه مواردها الوجهة الصحيحة، في حين أن دولاً بالمنطقة أدت الصراعات الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية والسياسية فيها إلى استنزاف جهدها ومواردها، ما جعلها تتأخر في سباقَي التنمية الإقليمي والعالمي.
قيم التسامح والانفتاح
خامساً: منظومة القيم: لا يمكن أن تتحقق التنمية الحقيقية في المجتمعات المنغلقة، التي تسود فيها نزعات التعصب والتشدد والتطرف والإقصاء والعداء للآخر، وهذا ما آمنت به دولة الإمارات العربية المتحدة منذ قيامها، ومن ثم عملت على تعميق قيم التسامح والانفتاح وقبول الآخر والوسطية والاعتدال، وغدت نموذجاً ليس إقليمياً فقط، وإنما عالمياً كذلك في هذا المجال، وتحولت إلى مصدر إلهام لكل الذين يبحثون عن كيفية مواجهة نزعات الصدام الديني والمذهبي والعرقي والحضاري، التي تهدد الأمن والسلم العالميين. ولعل توجيهات صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بأن يكون عام 2019 عاماً للتسامح، هي تأكيد للدور العالمي الذي غدت الدولة تقوم به في الدعوة إلى التسامح ونبذ التعصب والصراع.
وبعد عرض أهم العوامل التي أرى، من وجهة نظري، أنها وقفت وتقف وراء التفوق الإماراتي على المستويين الإقليمي والعالمي، أشير إلى ثلاث نقاط ختامية: الأولى تتصل بمنظور القوة الشاملة للدولة، وهي أن الإنجازات الإماراتية الكبرى تضيف المزيد من الألق إلى صورة الدولة على الساحة العالمية، ومن ثم تعزز قوتها الناعمة، التي تُعَد بعداً أساسياً ضمن أبعاد القوة الشاملة لأي دولة في ظل عصر العولمة وثورة الاتصالات.
أما النقطة الثانية، فإنها تتصل بالدور المهم الذي تلعبه دولة الإمارات العربية المتحدة بصفتها مصدر إلهام للشعوب العربية في سعيها نحو التقدم والتنمية في ظل ظروف الاحتقان واليأس وضبابية المستقبل، التي تسود في الكثير من مناطق عالمنا العربي، ولعل هذا ما أشار إليه بدقة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، في كلمته بمناسبة اليوم الوطني السابع والأربعين في ديسمبر 2018، حينما قال: «إن دولة الإمارات العربية المتحدة، بإنجازاتها الحضارية الكبرى، تبث الأمل في قلب كل مواطن عربي، وخاصة الشباب، وتوجه رسالة مهمة مفادها أن العرب قادرون على النجاح والتفوق والمنافسة الحقيقية في مضمار التطور العالمي، بقوة الإرادة والطموح والثقة بالنفس، والتخطيط الجدِّي للحاضر والمستقبل، ولذلك فإن ما يتحقق على الأرض الإماراتية يمثل مصدر إلهام للمنطقة كلها، ومصدر فخر واعتزاز لكل عربي، لأن إنجازات دولة الإمارات العربية المتحدة تضاف إلى الرصيد الحضاري للعرب، في ظل محاولات تشويه صورتهم، والنَّيل منهم، وبث اليأس والإحباط في نفوسهم». والنقطة الثالثة أشار إليها كذلك صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، في كلمته بمناسبة اليوم الوطني السابع والأربعين، حينما قال: «إن ما حققته وتحققه، وسوف تحققه، بإذن الله تعالى، دولة الإمارات العربية المتحدة من نجاحات على المستويات كافة يؤكد للعالم أن العالم العربي ليس تلك الصورة المشوَّهة التي يحاول المتطرفون والإرهابيون تصديرها إلى الخارج، والتي تجد من يتلقفها، ويروِّج لها لأغراض خبيثة، وإنما له وجه آخر مهم عنوانه الأمل والإنجاز والانفتاح والتسامح، والعمل بكل قوة من أجل المشاركة الحقيقية في مسيرة الحضارة البشرية». وبهذا، فإن التجربة الإماراتية في العمل المستمر من أجل المركز الأول، يتجاوز تأثيرها الإطار الإماراتي المحلي نحو الإطار العربي الأوسع، لأنها تبث الأمل في صدور الشعوب العربية، وتقدم صورة مختلفة وإيجابية عنها على الساحة الدولية.