حفلَ عام 2018 الذي نودع آخر أيامه اليومَ، بالعديد من الإنجازات الصحية، والاختراقات الطبية، والتي شملت الصحة الشخصية، والصحة العامة، من منظوريها القومي والعالمي. فعلى الصعيد الشخصي مثلا، نشر مجموعة من العلماء نتائجَ تجربة، تمكنوا خلالها من فك شيفرة الجينوم البشري، وذلك باستخدام جهاز محمول في حجم الهواتف الذكية، وهو ما يطرح احتمالَ أن يتم التمكن من فك شيفرة الجينوم الخاص بكل مريض في المعامل الطبية المعتادة، كما أنه يبشر ببزوغ فجر الطب الشخصي. وتعتبر هذه التجربة بمثابة الحلقة الأخيرة في سلسلة من التطورات العلمية الهائلة في هذا المجال، إذا ما أدركنا أن أوَّل فك لشفرة الجينوم البشري، والتي تمت في العقد الأخير من القرن الماضي، استغرقت حوالي 13 عاماً، إذ استمرت الجهود في هذا المجال من عام 1999 إلى عام 2004، وبتكلفة مالية فاقت في حينها الثلاثة مليارات دولار.
وعلى الصعيد القومي، وعلى سبيل المثال أيضاً، نجحت جمهورية مصر العربية خلال منتصف شهر مارس الماضي، من تحقيق إنجاز صحي دولي بالغ الدلالة بكل المقاييس، عندما أصبحت بلاد الفراعنة أولَ دولة من بين دول منطقة شرق البحر المتوسط تنجح في التخلص من مرض «الفلاريا» كواحد من مشكلات الصحة العامة، وكمرض متوطن منذ آلاف السنين. ويأتي هذا النجاح بعد قرابة عقدين من تفعيل دائم ومستمر لإجراءات الوقاية والتحكم في المرض، بما في ذلك العلاج الجماعي، والمتابعة والمراقبة الحثيثة للمناطق والتجمعات التي يتركز فيها هذا المرض، أو التي تتوفر على الظروف الملائمة لانتشاره فيها.
أما على صعيد الصحة العامة العالمية، فقد خطى مجموعةٌ من العلماء البريطانيين خطوات هامة نحو تخليق تطعيمات طبية في شكل أقراص أو كبسولات. وهو ما لن يغني عن الحاجة إلى تعاطي هذه التطعيمات عن طريق الحقن، وإنما أيضاً سيغني عن ضرورة الاحتفاظ بالتطعيمات في سلسلة تبريد متواصلة، من المختبر أو المصنع، إلى المستشفى أو العيادة. إن الاستغناء عن سلسلة التبريد هذه (Cold Chain)، إذا ما تم تحقيقه بالفعل، فسيشكل ثورة في عالم مكافحة الأمراض المعدية، وبصفة خاصة تلك المعروفة بأمراض الطفولة، كالحصبة، والدفتيريا، والنكاف، وشلل الأطفال، والسعال الديكي، والجديري المائي، وغيرها.
وتعددت وتنوعت المجالات الطبية التي شهدت اختراقات ملحوظة، أو على الأقل خطوات هامة على طريق البحث العلمي والاستكشاف، خلال عام 2018. فمثلا أظهرت دراسة أجراها أطباء بواحد من أعرق وأشهر مستشفيات طب العيون في بريطانيا، إمكانية الاستعانة بالخلايا الجذعية من أجل استعادة بصر مرضى مصابين بنوع خاص من فقدان البصر ينتج عن ضمور وتحلل مركز شبكية العين. ويعتبر هذا المرض من أهم أسباب فقدان البصر وأكثرها انتشاراً، لاسيما بين كبار السن، حيث يحتل المرتبة الثالثة على قائمة أهم أسباب العمى وفقدان البصر.
وعلى جانب الأمراض السرطانية، والتي يقدر أنها تصيب قرابة 13 مليون شخص على مستوى العالم سنوياً، يلقى 8 ملايين منهم حتفهم، مما يجعلها مسؤولة عن 13 بالمئة من مجمل الوفيات البشرية.. من المؤمل أن تلعب التطعيمات الطبية دوراً محورياً في مواجهة هذا التحدي الوجودي، مما يبشر بمستقبل مختلف للعلاقة بين الإنسان والسرطان. إحدى تلك البشائر جاء في شكل نتائج أوَّلية لدراسة استغرقت 11 عاماً، وأجريت على 331 مريضاً في بريطانيا، والولايات المتحدة، وكندا، وألمانيا.. مصابين بواحد من أكثر أنواع سرطان المخ انتشاراً، وأشدها ضراوة، واستعصاءً على العلاج. حيث قام العلماء بتلقيح 232 من المرضى بنوع خاص من التطعيمات (DCVax)، بالإضافة إلى تلقيهم للعلاج الروتيني المستخدم في مثل هذه الحالات، والمتضمن إزالة الورم جراحياً، ثم العلاج الإشعاعي والعلاج الكيماوي. وكانت المفاجأة أن أفراد المجموعة التي تلقت التطعيم، ظلوا على قيد الحياة بعد تشخيص مرضهم، لفترة وصلت في أحيان كثيرة لضعف الفترة التي ظل فيها أفراد المجموعة التي لم تتلق التطعيم.
ولن يتسع المقام هنا لاستعراض ما تم تحقيقه على صعيد العلاج المناعي، والذي كان موضوع جائزة نوبل لهذا العام، أو ما تم تحقيقه على صعيد الرعاية الصحية الأولية، وجعلها هدفاً عالمياً للأجهزة والمنظمات المعنية، أو مقدار التزايد في إدراك أهمية السعادة كغاية صحية، وكهدف أممي هي الأخرى. وإن كانت مثل هذه الاختراقات الصحية، والاكتشافات الطبية والعلمية، وغيرها الكثير الكثير خلال عام واحد، تظهر بأن الطب الحديث ما زال يتمتع بديناميكية عالية، نحو تحقيق هدف رفعَ المعاناة عن كثير من البشر، وباتجاه مكافحة أمراضٍ ظل أفرادُ الجنس البشري يرزحون تحت نَيرها منذ أن وطئت أقدامهم سطح هذا الكوكب، وهو ما تُرجم في النهاية إلى متوسط عمر أو مؤَمَّل حياة لإنسان العصر الحديث، يبلغ ضعف -وأحياناً ثلاثة أضعاف- متوسط عمر أسلافه.