كان الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران يقول إنه هو آخر الزعماء السياسيين في بلاده، وإن من يأتون بعده سيكونون موظفين لا رجال دولة. لا شك أن توقع ميتران كان في محله، لا في بلاده وحدها بل في كل البلدان الديمقراطية الغربية، رغم أن خليفته المباشر جاك شيراك كان سياسياً محترفاً وليس مجرد موظف إداري رفيع المستوى.
من يقف اليوم عند أبرز القيادات الحاكمة في الغرب يظهر له صدق ملاحظة ميتران: ففي فرنسا وصل الشاب المصرفي الذي عمل سابقاً في مؤسسة روتشلد إلى السلطة دون أن يسلك المسار السياسي التقليدي، كما هو شأن رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي، التي امتهنت العمل المصرفي. وفي ألمانيا تحكَّم منذ سنوات الباحثة الكيميائية أنجيلا ميركل التي نفِذت لدائرة السلطة من مدرجات الجامعة ومختبرات البحث العلمي، وفي الولايات المتحدة يحكم رجل الأعمال دونالد ترامب الذي ولَج للسلطة من حقل المضاربات العقارية. وقد بدأ المسار في إيطاليا مع رجل الأعمال برلسكوني الذي أقصى رموزَ الطبقة السياسية التقليدية من المشهد العام.
هل يعني الأمر أن السياسة تحولت من مفهوم الزعامة والقيادة الملهمة إلى مجرد التسيير الفني والبيروقراطي للمؤسسات العمومية؟
يذهب البعض إلى هذا التصور مستدلاً بأن عصر الأيديولوجيات الطوبائية قد انتهى، ولم يعد من المستساغ ولا المجدي التغني بالشعارات النظرية الحالمة، كما أن مفهوم الديمقراطية نفسه لا يتلاءم مع مفهوم الزعامة ما دام الحاكم في المجتمعات الديمقراطية هو مجرد ممثل عن الأمة يمارس صلاحياته بتفويض منها وفي حدود القيود القانونية التي وضعتها الإرادة المشتركة للمواطنين.
في بلدان العالم الثالث نفسها برز هذا التوجه، فأخذ الخبير الفني موقع السياسي، ونفذ رجل الأعمال إلى مراكز الصدارة، وتولى في بعض الساحات موقعَ رئاسة الحكومة وأمانة الأحزاب المتنفذة.
بيد أنه من الجلي أن قيادة الخبير في المجتمعات الديمقراطية أظهرت حدودَها في إدارة الأزمات السياسية والمجتمعية، باعتبار أن الإشكالات الكبرى المطروحة اليوم في هذه المجتمعات هي إشكالات سياسية بالمعنى العميق للعبارة، بما في ذلك قضايا مثل الهوية والتعددية والتطرف والعنف.. التي أصبحت هي التحديات الكبرى المطروحة في الحقل السياسي. وعندما انهار نموذج الزعيم السياسي التقليدي استولى عليها مغامرو السياسة من الوجوه الشعبوية التي وصل العديد منها إلى مركز السلطة.
ومن هنا ضرورة إعادة الاعتبار للسياسة التي هي حسب تعريف الفيلسوفة «حنة ارندت»، القدرة على صناعة «عالم مشترك» من خلال القدرة الفاعلة على إدارة التعددية التي هي السمة الغالبة على المجتمعات الإنسانية. صحيح أن التقليد الحداثي اتجه إلى تقليص دلالة السياسة في حدود التسيير القانوني للعنف، إلا أن السياسة من حيث هي ظاهرة عرضية احتمالية متعددة الأوجه تتطلب ملكات ومزايا تختلف عن عقلية وخبرة الخبير القانوني أو الاقتصادي.
كما أن الفعل السياسي يختلف نوعياً عن الفعل الأخلاقي، لا بمعنى أنه ليس أخلاقياً أو مناهضاً للأمر الأخلاقي، بل ينطلق من محددات معيارية مختلفة عن المعايير التي تحكم السلوك الفردي، ومن هنا تمييز عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بين أخلاق القناعة التي يجب أن يتحلى بها الفرد في علاقته بغيره من الأفراد، وأخلاق المسؤولية الخاصة برجل الحكم في إدارته للشأن العمومي.
كما أن للسياسة في الاتجاه نفسه معاييرها الابستمية (أي المعرفية) من حيث تصورها للحقيقة والمعنى، ما دامت تتعلق بأحكام وتقويمات لا تتعلق بوقائع قائمة تتطلب الوصف والضبط الدقيق على غرار الظواهر الطبيعية، بل بأحداث يصنعها السياسي نفسه من خلال خطابه وقراره.
لقد لاحظت حنة ارندت أن ثمة علاقة بين القدرة على الكذب، أي نفي الحقيقة، وبين أهلية الفعل (السياسي) الذي يعني القدرة على تغيير الواقع وتحويره. فبدون التنكر للواقع والانفصال عنه لا معنى للإيمان بقابلية الخروج عليه من أجل صناعة عالم بديل. ولذا فإن كل فعل سياسي حقيقي يتضمن شحنة طوبائية مثالية، قد تتحول إلى أسطورة عقيمة في حال العجز عن ترجمتها إلى مواقف إجرائية عملية، لكن بدون هذه الشحنة الحالمة لا سبيل لتغيير المجتمعات والنهوض بها.
لا يتعلق الأمر هنا باختلالين معروفين من اختلالات الفعل السياسي، هما صناعة الأوهام الجماعية من خلال تزييف الوعي عن طريق الدعاية الأيديولوجية الخشبية، كما هو شأن الأنظمة الأيديولوجية المستبدة، ولا بإنكار الحقيقة في الشأن السياسي عبر التلاعب بالمعلومات والوقائع انسجاماً مع ما أصبح يعرف اليوم بظاهرة «الوقائع البديلة» أو «عصر ما بعد الحقيقة».. بل بإبراز قدرة السياسة على إنتاج الحقيقة الفاعلة ذات الأثر الإيجابي على حياة الناس ومصيرهم، وذلك هو المعنى الحقيقي للسياسة.