في الوقت الذي شهد فيه العام المنصرم تحقيق العديد من الإنجازات الصحية والاختراقات العلمية المهمة، لا زال هناك عدد من التحديات الطبية التي ستستمر خلال العام الجديد، وربما لعدة سنوات وعقود قادمة. أحد المجالات التي ستشهد استمرار تلك التحديات، هو مجال الصحة العقلية والنفسية، حيث تظهر البيانات والإحصاءات انتشاراً واسعاً للاضطرابات العقلية والنفسية، بدرجة تجعلها أكثر انتشاراً من أمراض القلب والشرايين، أو الأمراض السرطانية، أو السكري بأنواعه المختلفة.
فعلى سبيل المثال، يستوفي 26 في المئة من الأميركيين فوق سن الثامنة عشرة، المعايير التي يمكن على أساسها تشخيص إصابتهم بمرض عقلي. وعلى حسب تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية، يُقدر أن الاضطرابات العقلية كلفت الاقتصاد العالمي عام 2010 نحو 2.5 تريليون دولار، مع التوقع أن ترتفع هذه التكلفة بحلول عام 2030 إلى 6 تريليونات دولار عام 2030. وتأتي هذه التقديرات والتوقعات بناء على الأدلة والبراهين التي تشير إلى أن نصف أفراد الجنس البشري يتأثرون حالياً –بشكل مباشر أو غير مباشر- بالاضطرابات العقلية، والتي تترك وقعها على تقديرهم لذاتهم، وعلى علاقاتهم الاجتماعية والمهنية، وعلى قدرتهم على الأداء والإنتاج في حياتهم اليومية. كما أن من المعروف أن الحالة أو الصحة النفسية للشخص، يمكنها أيضاً أن تؤثر على صحته الجسدية، ويمكن أيضاً للاضطرابات العقلية أن تدفع بصاحبها إلى تجاه مشاكل صحية أكبر كإدمان المخدرات والكحوليات.
وإذا ما خصصنا بالحديث هنا إدمان المخدرات، والذي يصنف ضمن الاضطرابات العقلية والنفسية، فسنجد أن إدمان مسكنات الآلام ومشتقات أو شبيهات الأفيون في الولايات المتحدة، قد أصبح طارئاً صحياً وطنياً، ولدرجة أن هذه المشكلة الصحية الاجتماعية أصبحت تُصنف على أنها خطر على الأمن القومي الأميركي. ويكفي لإدراك حجم هذه المشكلة حاليا، معرفة أن 90 أميركياً يلقون حتفهم يومياً نتيجة تناول جرعة زائدة من مشتقات الأفيون، ضمن 142 أميركياً يلقون حتفهم يومياً بسبب المخدرات بمختلف أنواعها. وبناء على هذه الوفيات اليومية، تظهر البيانات والإحصائيات أن أكثر من 42 ألف أميركي يلقون حتفهم بسبب الجرعة الزائدة من مسكنات الآلام ومن مشتقات الأفيون، سنوياً.
وفي الوقت الذي ترزح فيه الولايات المتحدة، والعديد من دول العالم، تحت وطأة وباء إدمان مشتقات الأفيون، يحذر خبراء المخدرات من موجة جديدة أو وباء من إدمان المنشطات العصبية، مثل الميثافيتامين، والكوكايين، وحتى بعض الأدوية والعقاقير الطبية المنشطة، مثل «الآداريل» و«الريتالين»، وهو الوباء الذي يتغذى على إمدادات وفيرة، من منشطات قوية المفعول، زهيدة الثمن. وحسب البيانات والإحصاءات الصادرة عن الجهات المنوطة بمكافحة المخدرات، فإن إدمان المنشطات العصبية يتزايد بشكل مضطرد، وبشكل أسرع حتى من إدمان مشتقات الأفيون.
وبخلاف إدمان المخدرات والكحوليات، على ما يبدو أن التكنولوجيا الحديثة ستوسع من نطاق شكل آخر من الإدمان، وستزيد من عدد المصابين به. فعلى حسب الطبعة الحادية عشرة من «التصنيف الدولي للأمراض» والتي صدرت العام الماضي، قامت منظمة الصحة العالمية -للمرة الأولى- بإدراج «اضطراب الألعاب الرقمية» (Gaming Disorder) ضمن اضطرابات الصحة العقلية، في إشارة إلى ألعاب الفيديو، أو ألعاب الكمبيوتر، أو الألعاب الإلكترونية. وحسب التصنيف الدولي للأمراض، فإن هذا الاضطراب نمط متكرر من السلوك المفرط في ممارسة هذه النوعية من الألعاب، يبلغ من الحدة درجة طغيانه التام على الاهتمامات والأنشطة الأخرى.    
وتتجسد فداحة العبء المرضي للاضطرابات العقلية في أقصى صورها من خلال مأساة قتل الكثيرين لأنفسهم. حيث يلقى كل عام قرابة الـ800 ألف شخص حتفهم انتحاراً، ويحاول أضعاف هذا العدد أيضاً قتل نفسهم، ولحسن الحظ لا تتحقق لهم غايتهم. هذه المأساة لا تترك وقعها فقط على الضحايا، بل تمتد تبعاتها لتشمل أسرهم وعائلاتهم، ومجتمعاتهم، ودولهم، وهي التبعات التي تستمر آثارها لفترة طويلة. مثل هذا الثمن الإنساني الفادح، بالإضافة إلى الثمن الاقتصادي الهائل للأمراض والاضطرابات العقلية، والذي يقدر أن يبلغ 6 تريليونات من الدولارات بنهاية العقد القادم، يظهر بشكل جلي مدى أهمية وضرورة الاستثمار في الصحة النفسية من قبل الحكومات ونظم الرعاية الصحية. بناء على التقديرات التي تشير إلى أن كل دولار يصرف في رفع مستوى خدمات الصحة النفسية، يحقق عائداً اقتصادياً يقدر بأربعة دولارات، في شكل صحة أفضل، وقدرة أكبر على العمل، ومستوى أعلى من الإنتاجية، ما يجعل الاستثمار في الصحة النفسية من أفضل الاستثمارات القومية على الإطلاق.