ظهرت الشعوبية منذ أن قام أبو لؤلؤة الفارسي بقتل عمر بن الخطاب، وصارت حركة سياسية شبه سرية مضادة للعنصر العربي في العصر الأموي، ثم تضخمت في أواسط العصر العباسي، حيث ضعف الحضور العربي في الحكم، وتوغل الفرس في مناصب الدولة الإسلامية. ولم يكن عند المسلمين العرب الأوائل أي مشاعر أو انتماءات قومية، فقد ألغى الإسلام الفوارق بين المؤمنين وجعل التقوى بوصفها قيمة أخلاقية معياراً في التفاضل والتكريم، واعتبر كل سكان الدولة الناشئة مواطنين متساوين في الواجبات والحقوق ملتزمين بالدفاع المشترك عن موطنهم على اختلاف قومياتهم وأديانهم. وقد سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمة واحدة في وثيقة المدينة المنورة (إنهم أمة واحدة من دون الناس).
لكن بعض من لم يدخل الإيمان في قلوبهم من الفرس دخلوا في الإسلام مضمرين في نفوسهم حقداً دفيناً توارثوه من أيام التمرد العربي القديم على امبراطورية الفرس التي احتلت أجزاء كبيرة من الأرض العربية، وأقامت فيها دولاً صغيرة تابعة لها مثل «دولة المناذرة»، وبلغ الاستعلاء الفارسي على العرب مبلغاً لا يطاق حتى انتفض العرب بثورة كبرى، تبحث عن حريتهم وكرامتهم وكانت معركة ذي قار بداية عصر التحرر العربي من هيمنة الفرس مطلع القرن السادس الميلادي، ولكن العدوان الفارسي استمر على مناطق الخليج العربي وعلى العراق حتى جاءت معركة القادسية انتصاراً عسكرياً حاسماً عززه الدين الجديد، وقد دخل فيه الفرس وبينهم الصادقون والمنافقون معاً.. ولابد من الإنصاف في تقدير إخلاص الصادقين من الفرس ومن كل الشعوب التي اعتنقت الإسلام الذي جاء دعوة للناس كافة، فقد أثرت هذه الشعوب مع العرب حضارة الإسلام، وحملت راياته العسكرية للدفاع عنه كما ضخت فيه فيضاً ضخماً من العلوم والآداب والفنون، التي هي اليوم ثروة للبشرية كلها، ولا أحد من العرب ينكر فضل مساهمة الفرس المسلمين الصادقين، وهم من كبار علماء أمتنا الإسلامية.
لكن الذين دخلوا الإسلام، ولم يؤمنوا بعقيدته سرعان ما تمكنوا من حيازة القوة والسلطة مضمرين في نفوسهم مشاعر القومية الفارسية، وباتوا يبحثون عن سبل للسيطرة على العرب ولهدم الإسلام من داخله. والمفجع أن العرب انشغلوا بصراعاتهم على السلطة، فوجد الفرس منفذاً بينهم لتأجيج الصراع كما حدث في عهد الأمين والمأمون، فقد استكان المأمون لمطالب أخواله الفرس، فوقعت حرب بين الأخوين، ثم تمكن الاخلاط من النفوذ إلى أعلى مواقع السلطة، حتى أصبح موقع الخليفة مجرد منصب فخري.
وكان مفجعاً للعرب أن يجدوا شركاءهم الفرس يتحالفون مع المغول ويساعدونهم لإسقاط بغداد (ودور الوزير ابن علقمة في سقوط بغداد، أشهر من أن يخفى على أحد) ثم انضم الفرس إلى إمبراطورية المغول منتصرين لها، وأسهموا بقوة في التحالف الفارسي الصليبي، ولعبوا أدواراً خطيرة ضد العرب المسلمين، وقد عزز هذا التحالف وفاء اليهود للفرس، حيث لاينسى الصهاينة إلى اليوم أنهم حلفاء فارس من عهد الإمبراطور قورش في القرن السادس قبل الميلاد، فهو الذي حرر اليهود من السبي البابلي، وسمح لليهود بدخول فلسطين كما في روايات التاريخ القديم.
وقد تجاهل العرب هذا التاريخ كله وتناسوه، وسعوا لإقامة علاقات ودية مع إيران تقوم على القبول بالخصوصيات الدينية، وتعلي شأن حسن الجوار، وتعزز العيش المشترك، ولم تعد قضية الشعوبية مطروحة في الثقافة الاجتماعية بين الطرفين، رغم فيض الكتابات الفارسية ذات الصبغة المذهبية الدينية التي تجرح مشاعر العرب، وتقلل من شأنهم، وتذم رموز تاريخهم الإسلامي، لكن الثورة الإيرانية التي سمت نفسها إسلامية، عملت على تقويض ما سعى إليه العرب والصادقون من الفرس من إخاء إسلامي، وجعلت العرب المسلمين عدوها الأول، وها هي اليوم تتباهى وتفخر بأنها سيطرت على أربع دول عربية هي العراق ولبنان واليمن وسوريا التي اعتبرتها محافظة إيرانية، كما أنها تمد أذرعها في كل اتجاه في الأرض العربية، فضلاً عن احتلالها لأراض عربية في الساحل الشرقي والجزر الإماراتية الثلاث في الخليج العربي طنب الصغري وطنب الكبرى وأبوموسى.
وكانت شعارات إيران وميليشياتها داخل سوريا ذات صبغة دينية طائفية محضة، لتحريض الطرف الآخر ودفعه إلى البحث عن شعارات مضادة من ذات النوع، لتغرق الأمة في صراعات طائفية مذهبية، ولتخفي شعارات الشعب السوري التي تنادي بالكرامة والحرية والديموقراطية.