في 11 نوفمبر الماضي احتشد زعماء العالم في باريس لإحياء الذكرى المئة لنهاية الحرب العالمية الأولى. كانت ثمة مصادر إلهاء عديدة يومئذ: فالرئيس الأميركي كان خائفاً من المطر، والرئيس الروسي وصل متأخراً إلى الفعالية بلا مبالاة.. ومنذ ذلك الوقت جدّت مصادر إلهاء أكثر: السترات الصفر، استقالة وزير الدفاع جيم ماتيس، انخفاض سوق الأسهم.
لكن، وبعد انتهاء 2018، يحسُن بنا التوقف قليلا لتأمل خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ذلك اليوم. ظاهرياً، كان موضوع ماكرون هو الحرب العالمية الأولى، تلك اللحظة الوحشية عندما «كادت أوروبا تنتحر». لكن التيمة الحقيقية كانت الرؤيتان المختلفتان لفرنسا، الرؤيتان المنافستان إحداهما للأخرى منذ نحو قرن. فمن جهة، وصف ماكرون رؤية قومية انعزالية لفرنسا تركز على الداخل، هذا التعريف للأمة موجود منذ وقت طويل جداً، ولديه جاذبية عميقة: «مصالحنا أولاً..»، كما قال ماكرون. وهذا أمر مفهوم. لكن ماكرون شرح أيضاً طريقة أخرى للتفكير في بلاده؛ «رؤية لفرنسا كأمة كريمة، ولفرنسا كمشروع، ولفرنسا تدعم القيم الكونية.. أي خلافاً لأنانية أشخاص لا يرعون سوى مصالحهم». هذه الوطنية المثالية «المناقضة للقومية»، كما قال ماكرون، يصعب دعمها، لكن الكثيرين دعموها عبر فرنسا طوال التاريخ. إنها فرنسا التي قلبت الحكم في قضية دريفوس، وآمنت بأن كل المواطنين سواسية أمام القانون، وانضمت إلى المقاومة بدلا من «فيشي»، ووافقت على تقاسم السلطة والسيادة مع ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، وساعدت على تحقيق الرخاء والازدهار عبر القارة.
هذا النوع من حب الوطن، المرتبط بُمثل وقيم أكبر حول الديمقراطية والمصلحة العامة، من المهم التفكير فيه حالياً، إذ قد يكون ترياقاً لحالة الاستقطاب التي تؤججها وسائلُ التواصل الاجتماعي، ولمشاعر الغضب التي تنتقل بسرعة كبيرة عبر الإنترنت.
البعض شرع في محاولة تغيير الأمور. فقبل بضعة أسابيع تحدثتُ مع فلافيا كلاينر، الشابة ذات الـ28 ربيعاً، والتي ساهمت في تأسيس «أوبيراسيون ليبيرو»، وهي حركة سويسرية على الإنترنت. فأمام النجاح الانتخابي لحزب الشعب السويسري القومي المعادي للمهاجرين، تناضل حركة «أوبيراسيون ليبيرو» برؤية مختلفة للبلاد. «إننا نقدم رؤية إيجابية أكثر لسويسرا، إننا لا نريدها أن تكون متحفاً ذا ماض مثالي في الهواء الطلق»، تقول كلاينر. وعلى غرار منظمات تلقائية جديدة أخرى، يجد أعضاء منظمتها أنفسهم على الإنترنت، خارج حدود الأحزاب السياسية التقليدية. لكن بدلا من التعبئة المضادة، فإنهم يتعبؤون لصالح حكم القانون، ولصالح الليبرالية السويسرية، ولصالح لعب سويسرا دوراً مهماً في أوروبا والعالم.
ومنذ تأسيسها، ساعد أعضاء «أوبيراسيون ليبيرو» من المغرّدين المتطوعين وكتاب الرأي ومدوني الفيسبوك، على الفوز بعدد من الاستفتاءات، وتقول كلاينر إن عدد متابعيها على وسائل التواصل الاجتماعي بات الآن أكبر من متابعي اليمين الشعبوي. هذا النجاح كانت له أصداء في أماكن أخرى: ففي بولندا والمجر وسلوفاكيا هذه السنة، رفع المحتجون على تسييس القضاء وفساد حكومات قومية، الأعلامَ الوطنية وغنّوا أغاني وطنية.
وبالطبع، لن ينجح الأمر دائماً. وجهود ماكرون لإعادة إشعال نوع مختلف من الوطنية في فرنسا تصطدم بمشاكل وصعوبات كبيرة، يهددها غضبُ الإنترنت الذي يسعى الرئيس الفرنسي لمحاربته. غير أنه حتى في حال اتضح، بعد ثلاث سنوات من اليوم، أنه رئيس لولاية واحدة، فإن رسالة ماكرون ستدوم مدة أطول بكثير، وربما تُثبت أنها أهم من مشواره السياسي.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»