في ظل التغير الحادث خلال العقدين الماضيين في سبل الترفيه اليومي، واعتمادها بشكل متزايد على الشاشات الإلكترونية، سواء أكانت شاشات التلفزيون أم الكمبيوتر، أم ألعاب الفيديو، أم أجهزة الهاتف المحمول.. تزايدت أيضاً بشكل مماثل مستويات القلق من التأثيرات الناتجة عن هذه الشاشات وتبعاتها السلبية، على الصحة الجسدية، والصحة النفسية (العقلية)، وعلى مهارات التواصل الاجتماعي، ومفردات اللغة، ونمط وأسلوب الحياة بوجه عام.
وبلغت درجات القلق تلك أقصاها لدى الآباء على صحة الأطفال والمراهقين، نتيجة حجم الوقت الذي يقضيه أفراد تلك الفئة العمرية منهمكين في تلك الشاشات بمختلف أنواعها، وبسبب كون عقولهم مازالت في مرحلة النمو والتشكل، وهو ما ينطبق أيضاً على مهاراتهم الاجتماعية، ومفرداتهم اللغوية، وعلى أدائهم المدرسي، وحتى على معتقداتهم الدينية، وأفكارهم السياسية، ناهيك عما قد يتعرضون له من مواقع إباحية، أو من المضايقة والتنمر الإلكتروني، أو الأفكار المختلة والشاذة كتلك التي تحث على العنف أو تحفز على الانتحار.
وهو ما حدا ببعض الدول إلى إصدار القوانين والتشريعات، للحد من الوقت الذي يقضيه الأطفال والمراهقون على شاشات الترفيه، وهو على سبيل المثال ما فعلته كوريا الجنوبية التي شرّعت قانوناً يمنع الأطفال دون سن السادسة عشرة من ممارسة الألعاب الرقمية «أون لاين» بداية من منتصف الليل وحتى السادسة صباحاً، لاسيما خلال أيام الدراسة، وفي أيام العطلات والإجازات المدرسية كذلك. أما في اليابان فيتم تنبيه مَن يمارسون هذه الألعاب، إذا ما تخطوا عدداً محدداً من الساعات، خلال الشهر الواحد. وعلى المنوال نفسه تقريباً، قامت أكبر شركة إنترنت في الصين، بتحديد عدد الساعات التي يمكن للأطفال خلالها ممارسة الألعاب الأكثر انتشاراً بين صغار السن.
وإن كان حجم وفداحة تبعات شاشات الترفيه، هو محل جدل وخلاف طبي محتدم، فإنه في الوقت الذي يرنو فيه البعض إلى إطلاق التحذيرات، والضغط على صفارات الإنذار، يميل آخرون إلى التهوين من ذلك الأمر، وإلى دحض المخاوف المرتبطة به. فعلى سبيل المثال، وفي الوقت الذي تظهِر فيه بعض الدراسات وجودَ علاقة بين فرط استخدام شاشات الترفيه، وبين ارتفاع معدلات الإصابة بالسمنة، وبالاكتئاب، وهو ما يرى المتخوفون أنه نتيجةٌ لهذا الإفراط والذي قد يصل أحياناً إلى درجة الإدمان.. يرى الفريق الآخر أن المصابين بتلك الحالات –السمنة أو الاكتئاب- يميلون إلى قضاء وقت أكبر على شاشات الترفيه. أي أن الفريق الأول يرى أن السمنة والاكتئاب هما نتاج فرط استخدام الشاشات الإلكترونية، بينما يرى الفريق الآخر أن هذا الإفراط هو وسيلة هروب وملجأ يلجأ له بعض من يعانون من مشاكل صحية أو نفسية، وإن كان هذا الفريق يؤمن أيضاً بأن الإفراط الشديد لدرجة الإدمان على استخدام هذه الشاشات، سيحمل معه تبعات سلبية عديدة ومتنوعة.
وجهة النظر تلك، دعمتها دراسة صدرت في الآونة الأخيرة ضمن العدد الأخير من إحدى الدوريات الطبية المرموقة، وهي دورية «BMJ Open»، وأشرف على هذا العدد علماء «يونيفرستي كولج لندن» ببريطانيا، وبالتعاون مع الكلية الملكية لصحة وطب الأطفال. وما خلص إليه أطباء الكلية الملكية، هو أنه لا توجد أدلة كافية على أن قضاء وقت أمام شاشات الترفيه يتسبب في ضرر شديد للصحة، وليس من الواضح ما إذا كانت المشاكل الصحية التي يعاني منها بعض مَن يقضون وقتاً طويلا أمام تلك الشاشات، هي سبب أم نتيجة؟
وللإجابة عن هذا السؤال، وضعت الكليةُ الملكيةُ ذاتُها مجموعةً من الأسئلة، قد تساعد على الوصول إلى الإجابة الصحيحة بهذا الشأن. ومن تلك الأسئلة مثلا: هل تعتقد أن ابنك يمكنه التحكم بسهولة في الوقت الذي يقضيه أمام الشاشات بمختلف أنواعها؟ هل يتعارض أو يعيق الوقت الذي يقضيه على شاشات الترفيه مع مشاركته في الأنشطة العائلية والاجتماعية؟ هل يؤثر وقت الشاشات على عدد ساعات نومه وحصوله على قدر كاف من الراحة؟ هل يتحكم في حجم وكمية الوجبات الخفيفة «السناك» التي يتناولها أثناء تقضيته للوقت مع شاشات الترفيه؟
إجابات هذه الأسئلة ستمكن الآباء من التقدير بشكل سليم، إذا ما كان الوقت الذي يقضيه أطفالهم مع شاشات الترفيه، قد بلغ حد التسبب في ضرر صحي لهم، جسدياً ونفسياً واجتماعياً، أم أنه أقلَّ من يسبب لهم أي أضرار.
وإن كان يجب التنبيه هنا إلى أن تلك الأسئلة، تتعلق فحسب بمدى وحجم الوقت الذي يقضيه الطفل أو المراهق على شاشات الترفيه، أما نوعية ما يستهلكه خلال هذا الوقت، أو طبيعة ما يمارسه من خلال تلك الشاشات، فذلك موضوع آخر مختلف تماماً.