مع بداية العام الجديد وتحمل الكونغرس الجديد مهامه في الولايات المتحدة، يحتد الحوار في الدوائر الاستراتيجية الأميركية حول رؤى ومقاربات النظام العالمي والعلاقات الدولية بعد سنتين من تجربة الرئيس ترامب الذي رفع شعار «أميركا أولا» وتبنى نهج التحلل من التزامات الولايات المتحدة الخارجية حالَ تعارضِها مع المصالح الحيوية القومية.
وفي هذا السياق، كتب نائب وزير الخارجية الأميركي الأسبق «انتوني بلينكن» والمفكر السياسي «روبير كاجان» الباحث في معهد بروكنز الشهير، مقالةً مطولة هامة في صحيفة «واشنطن بوست» (1 يناير 2019) تُبلور مقاربةً بديلة عن الأطروحة الانكفائية التي تهيمن حالياً على الفكر الاستراتيجي الأميركي في مكونيه اليميني واليساري.
ما تنطلق منه هذه المقاربة هو الشعور السائد في الولايات المتحدة بأن سياسة التدخل النشط في الأزمات الدولية لم تجلب لأميركا سوى الخسائر المادية والبشرية والسياسية، وأن منظومة التحالف الليبرالي والتبادل الحر انعكست سلباً على المصالح الحيوية الأميركية.
بيد أن الكاتبين يذهبان إلى الأطروحة التقليدية القائلة بارتباط المصالح الجوهرية الأميركية بقيادة الولايات المتحدة لمنظومة دولية تكفل استقرار العالم ورفاهيته، وتضمن حقوق الإنسان وتحرره. بيد أنهما يدركان أن هذه المقاربة الثابتة تحتاج اليوم إلى آليات وأدوات عمل جديدة تتناسب مع الوضع العالمي في اتجاهاته غير المسبوقة. وفي هذا السياق، يقترح الكاتبان مقاربة استراتيجية قائمة على دعائم أربعة هي: الديبلوماسية الوقائية والردع، التجارة والتكنولوجيا، المنظومة الائتلافية والمؤسسية، والهجرة واللجوء.
وبخصوص المحدد الأول المطلوب هو الجمع بين ديبلوماسية نشطة لا تكتفي بإدارة الأزمات بل تستبقها مع اللجوء إلى العنف عند الضرورة والاحتفاظ بالتفوق العسكري في مواجهة موجة الأنظمة الشعبوية والقومية الاستبدادية التي تهدد السلم الدولي.
كما أنه على الولايات المتحدة أن تحافظ على مكاسب التجارة الدولية الحرة، التي ضمنت لها الريادة الاقتصادية، وسمحت بدفع الرفاهية والاستقرار في العالم، وهي اليوم مهددة بمسلك رأسمالية الدولة التسلطية الذي تنتهجه الصين، وتحاول من خلاله إعادة قولبة حركية التبادل التجاري الدولي.
وبخصوص شبكات التحالف الدولية، يرى الكاتبان أنه على الولايات المتحدة أن تعيد بناء المؤسسات الدولية التي كان لها الدور الأكبر في صياغتها في القرن الماضي، ومن خلالها استطاعت الانتصار في الحرب الباردة. ومن هذا المنظور تحتاج الولايات المتحدة إلى توحيد شبكات نفوذها في العالم ضمن نسيج يشمل كل شركائها في أوروبا وآسيا، مقابل مشروع العولمة الصينية الذي قرَّب ما بين أوروبا وآسيا والشرق الأوسط.
أما حركة الهجرة القسرية فهي حسب الكاتبين أهم تهديد يواجه اليوم المنظومة الاستراتيجية الدولية، ويحتاج إلى إدارة ذكية وحازمة من خلال العمل على مكافحة الفقر والفساد، وتشجيع الإصلاحات المؤسسية والاقتصادية، للقضاء على أسباب اللجوء القسري.
ويخلص الكاتبان، إلى أن انسحاب الولايات المتحدة من النظام العالمي يفضي إلى أحد احتمالين: إما بروز قوة بديلة تتحمل قيادة العالم، ولن تكون قوة ليبرالية تؤمن بمنطق الحرية والشراكة السلمية، أو دخول العالم في فوضى مريعة مدمرة على غرار ما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي.. وهما احتمالان خطيران على المصالح الحيوية الأميركية.
إن هذه المقالة التي لخصناها باقتضاب تستوقفنا في الحالة العربية الراهنة إلى مستوين أساسيين:
يتعلق أولهما بطبيعة التموقع في النظام الدولي ما بعد الحرب الباردة، ببروز اتجاه أميركي واضح إلى الانسحاب من منطقتنا التي شكلت إحدى بؤر التدخل الأميركية الأساسية عسكرياً ودبلوماسياً ما بعد الحرب الباردة، ولم يفض هذا التدخل في الغالب إلى نتائج إيجابية، كما هو جلي من السياسات التي اتبعت في العراق وسوريا وغيرها من الأزمات العربية المحتدمة. وإذا كان جل الأطراف العربية الفاعلة لا يزال يؤمن بخط الشراكة الخاصة مع الولايات المتحدة، فإنه من الجلي أن النزعة الانكفائية الأميركية تقتضي تنويع استراتيجية الشراكات الدولية، وتفرض العمل مع الإدارة الأميركية على تجديد قواعد اللعبة الشرق أوسطية الجديدة.
أما المستوى الثاني فيتعلق بالتحدي الاستراتيجي الثلاثي الذي تطرحه الهجرة والتطرف وانهيار الدولة السيادية المركزية، وهو تحدي متركز في مجالنا العربي الشرق أوسطي، ويشكل اليوم من المنظور الأميركي رهاناً أساسياً من رهانات النقاش المحتدم حول النظام الدولي ونمط تسييره وإدارته. المطلوب في هذا السياق هو بلورة رؤية عربية مناسبة لهذه التحديات الجديدة التي توجد في مقدمة أجندة العلاقات الأميركية العربية.