احتفلت شعوب العالم ببداية العام الجديد (2019)، على أمل أن يشهد هذا العام تحقيق آمالهم وأمنياتهم. وحدهم الأميركيون السود –الذين يتحدرون من أصول أفريقية- احتفلوا بالمناسبة بآمال مختلفة. فقبل 400 عام تحديداً، أي في شهر أغسطس من عام 1619 بدأت العبودية في الولايات المتحدة. ولم تكن تلك البداية عن سابق تصور وتصميم. الذي حدث هو ان سفينة شحن إسبانية كانت تنقل مجموعة من الأفارقة -الذين جرى «اصطيادهم» في أفريقيا- إلى المستعمرات الإسبانية في أميركا الجنوبية. فتعرضت لها سفن القراصنة الأميركيين في أعالي البحار، وصادرت منها 20 أفريقياً. كانت تلك الدفعة الأولى من المستعبَدين الأفارقة في الدولة التي أصبحت تُعرف فيما بعد باسم الولايات المتحدة الأميركية.
القراصنة الذين باعوا المستعبَدين العشرين إلى المزارعين في مدينة جايمس تاون، وجدوا في تجارة العبيد سوقاً رابحة. فعمدوا إلى تنظيم رحلات لجلب المزيد من أفريقيا، ما أدى إلى رواج هذه التجارة لسنوات وعقود طويلة.
استمرت هذه التجارة حتى عام 1865 عندما أعلن الرئيس أبراهام لينكولن قانون حرية العبيد في المادة 13 من الدستور الجديد. ولكن إنهاء العبودية لم يعنِ تحقيق المساواة. وحتى أثناء الثورة الأميركية على البريطانيين، وعندما رُفعت شعارات «المساواة بين الناس» كردّ على السياسة الاستعمارية البريطانية، لم يُعتبر الأميركيون السود من أولئك الناس. فقد نصّ الدستور الأول بعد الاستقلال عن بريطانيا على أن الناس خُلقوا متساويين. ولكن لا السود ولا حتى المواطنين الأصليين من الهنود الحمر اعتُبروا في ذلك الوقت من أولئك «الناس». مما أدى إلى استمرار اضطهادهم ومعاناتهم. فقد خضع الآباء المؤسسون للولايات المتحدة لمطالب الولايات الجنوبية استرضاء لها حتى تدخل في الاتحاد. ومن مظاهر الاسترضاء السماح باستمرار تجارة العبيد. ومنها أيضاً اعتبار العبد الواحد يساوي ثلاثة أخماس (5/3) المواطن في عملية التصويت والتمثيل في المجالس المحلية والاتحادية المنتخبَة.
واليوم ومع بداية العام الجديد (2019) يدل رقمان على مدى بُعد المسافة عن المساواة المنشودة. الرقم الأول هو أن السود يشكلون نسبة 24 بالمائة من السكان في الولايات المتحدة. أما الرقم الثاني، فهو أنهم يُشكلون في الوقت ذاته نسبة 74 بالمائة من السجناء! ويعود السبب في ذلك إلى أنه خلال الأربعمائة عام الماضية التي كان الأميركي المتحدر من أصول أفريقية يعامَل معاملة العبد، فإنه أصبح يُعامَل بعد إنهاء العبودية معاملة المواطن من الدرجة الثانية. وبالتالي كان يعاني الحرمان من كثير من الحقوق في الدراسة والعمل والرعاية الاجتماعية. فالجامعات كانت تعتبر عقل الإنسان الأسود متخلفاً. وكانت المصارف تعتبر أن المواطن الأسود لا يستحق أن يُمنح القروض المالية. وحتى المستشفيات كانت تعتبره غير مستحق للعلاج. أدت هذه المعاملة إلى تمييز سلبي استمر أجيالاً.
قام الدكتور «مارتن لوثر» بحركته الاحتجاجية الواسعة ضد التمييز العنصري. وتكرس نجاح حركته بعد عقود من وفاته بوصول الرئيس السابق باراك أوباما إلى البيت الأبيض ليكون أول رئيس أميركي يتحدر من أصول أفريقية (كينيا). ثم كان ردّ الفعل على ذلك بانفجار موجة الشعبوية البيضاء التي حملت الرئيس الحالي دونالد ترامب إلى الرئاسة. وهو الانفجار الذي أطلقه الخوف من تغيير الهوية العنصرية للولايات المتحدة، ليس فقط بسبب تزايد أعداد المواطنين السود، ولكن بسبب الهجرة من دول أميركا الجنوبية والوسطى أيضاً. بعد مرور 400 عام على بداية العبودية في الولايات المتحدة، لا تزال مظاهرها وحتى بعض آثارها ماثلة للعيان. فقد ضمّ الرئيس ترامب سيدة واحدة من أصول أفريقية إلى فريق عمله في البيت الأبيض. ولكن هذه السيدة لم تبقَ طويلاً. فقد استقالت ونشرت كتاباً عن تجربتها غير المشجعة، كشفت فيها عن كثير من المواقف السلبية التي تعرضت لها على خلفية عنصرية.
فمتى يحتفل الأميركيون، ومعهم العالم كله، بإزالة كل معالم التمييز العنصري التي تمزق وحدة معظم المجتمعات الإنسانية؟