لم ينته عام زايد حتى دخلت الإمارات عامها الجديد في امتداد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، عبر صفاته ومزاياه. فالتسامح بالنسبة له لم يكن حديثاً مسترسلاً ولا ثرثرة في فراغ الفكر، بل سلوكاً ملموساً وعملاً رفيع المستوى في الأثر. هرول إليه المقربون يوما لإعلامه عن رجل قيد الحجز وقد أساء إلى شخصه، وهو ما يُسمى في القانون بـ «ذات الحاكم أو الأمير أو الملك أو الرئيس مقدسة»، فلم يسرع في الحكم على «المتهم» فطلب منهم وبإصرار أن يذكروا له بالضبط ماذا قال عنه وهم يترددون في البوح به حتى غلب إلحاح زايد ترددهم، فقالوا له إنه يقول عنك كذا.. فضحك حتى بدت نواجذه فرد عليهم: كبِّروا عقولكم وآتوني بدفتر الشيكات. فكتب لـ «المتهم» المحبوس مبلغا من المال، فقال لبطانته: اذهبوا بهذا المال إلى ذاك الرجل فقولوا له" زايد يسلم عليك ويهديك هذا المال مقابل إساءتك إليه، وأمر بإطلاق سراحك فوراً، فغرق الرجل في بحر سماحة زايد الذي أعجز مساعديه، وأدهش فعله أقرب الناس إليه، وهم لم يبلغوا معشار ما كان عليه زايد من الخلق أحسنه.
هذا هو الإنسان في زايد الذي تعامل بروح القانون، وليس بنيرانه، ومن أين له مثل هذا السلوك الحضاري الرفيع؟ لا شك بأنه من مدرسة «وإنك لعلى خلق عظيم» صاحب جامعة «أخ كريم وابن أخ كريم اذهبوا فأنتم الطلقاء». وقد استمعت إلى زايد في حديث إذاعي، ولفت سمعي سؤال موجه له عن أهمية القدوة في حياته فأجاب: في حياتي ثلاث قدوات، الأول محمد صلى الله عليه وسلم والثاني والدتي والثالث المتنبي.
هذه القدوة ثلاثية الأبعاد، لا بد وأن تكون حصيلتها زايد الإنسان أولاً ثم القائد ثانياً ثم منبع الحكمة ثالثاً. من هنا لا بد أن نعرج على قمة التسامح عند المصطفى، محمد صلى الله عليه وسلم، صاحب الخلق الأكرم، فلننصت إلى أم المؤمنين، وهي تروي عن تسامحه مع من وصفهم المولى في محكم آياته: «ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا..».
اليهود دعوا على رسولنا بالموت فترفّع عنهم وأعذرهم، فهذا تسامح التعايش ولا علاقة له بالسياسات بل بالأخلاقيات السامية والنفوس العزيزة الصافية.
فالتسامي في التسامح فعل محسوس، وليس قول معلق في السماء لا يطاله الإنسان. ونذكر هنا بأن الدولة في عام التسامح هذا مقبلة في فبراير المقبل على حدث عالمي لاستقبال بابا الفاتيكان في قلب أبوظبي عاصمة التسامح بامتياز.
هذا الحدث المرتقب فيه من الدلالة العملية في احترام النصرانية التي ذكرها الله في كتابه الكريم مادحاً المسيحيين: «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى».
هذا الاحتفاء بقرابة ثلاثة مليارات من البشر يعتنقون الدين المسيحي في جميع أنحاء العالم بكافة طوائفهم وتفريعاتهم المذهبية، سيكون حاضراً هنا في إمارات المحبة بالتسامح والسلام.
هذا عام، نباهي به الأمم من حولنا لأن كافة الجنسيات والأعراق ممثلة في عمق مجتمعنا، بل هم ركن ركين من بناء دولتنا. فعندما قيل للمغفور له الشيخ زايد عن وجود هذا الكم الهائل من السكان في الدولة أجاب عن ذلك بروحه المسامحة هؤلاء خلق الله ساقهم رزقهم عندنا.