لا يكفي للتجدد الحضاري في المشروع النهضوي العربي الجديد أن يتعامل مع نصوص من الموروث القديم لتفكيكه والتحرر من معوقاته وإعادة بناء علومه وتصوراته الموروثة، بناءً على تحديات العصر ومتطلباته أو أن يتعامل مع نصوص من الوافد الغربي من أجل الإسراع في السبق الحضاري، والانتقال إلى الحداثة وربما ما بعد الحداثة.. بل يتعين أخذ موقف نقدي مزدوج من الموروث والوافد معاً. فالثقافة بنت الواقع وانعكاس له وكشف عن مكوناته ومساره. ولا يكفي أن تظل الثقافة العربية أسيرة النص كعامل متوسط بينها وبين الواقع، تراه من خلاله وكأن العين العربية غير قادرة على رؤية الواقع دون نظارة نص، ترى العالم من خلاله. لذلك اتهمت الثقافة العربية بأنها ثقافة نص، والحضارة العربية بأنها حضارة كتاب. وزها الغرب على باقي الحضارات الدينية والشرقية بأنه الوحيد الذي انتقل من الكتاب المغلق إلى كتاب الطبيعة المفتوح. مع أن لفظ «آية» في اللغة العربية تعني نصاً أو عبارة مثل الآية القرآنية، كما تعني حادثة طبيعية أو واقعاً مشاهداً، كما هو الحال في المعجزات كآيات أي علامات.
ويدعي الغرب أنه وحده الذي استطاع التنظير للواقع ونقد النص، نص أرسطو أو نص الكنيسة، وإثبات تعارضهما مع الواقع الحسي المشاهد والعقل الصريح، وهو وحده الذي لديه القدرة على التنظير مثل نقطة أرشميدس أو الحركة والامتداد عند ديكارت.. مع أن الثقافة العربية ساهمت في العلوم الرياضية، وأسست الجبر وحساب التفاضل والتكامل والهندسة التحليلية، بل وضعت الصفر بين الأعداد الموجبة والأعداد السالبة. والفن العربي «الأرابيسك» تحويل للأشكال الرياضية الهندسية إلى أشكال جمالية تعتمد على اللانهائي.
إن الهدف من ادعاء الغرب هو نسج أسطورة التفوق حتى تظل الشعوب غير الأوروبية ناقلة عن الغرب لنظرياته مكتفية بتطبيقها. وتستطيع الثقافة العربية في مشروع نهضتها الجديد إبداع نص جديد، كما أبدع القدماء نصوصهم وكما أبدع الغرب الحديث نصوصه، وذلك بالتنظير المباشر للواقع وصياغته في نص، وبالتالي تتراكم النصوص في الثقافة الواحدة عبر مراحل التاريخ. فليس الغرب وحده صاحب القدرة على التنظير، ولا توجد حضارة مبدعة وأخرى شارحة فقط.
لكن ذلك يتطلب إسقاط الأغطية النظرية القديمة التي تجعل العالم معروفاً وفي وئام مع الذات، مما يدفع الذات لوضع الأسئلة حول النشأة والمصير. الثقافة العربية حتى الآن مغطاة بأجوبة ثابتة لا تسمح بالتساؤل حول العالم والخلق والنفس والتاريخ.. وهي إجابات قطعية على التساؤلات الفلسفية الرئيسية الثلاثة في كل مذهب فلسفي، وكما عرضها ديكارت في «التأملات في الفلسفة الأولى»، إثبات الذات أولًا، والله ثانياً، والعالم ثالثاً. وهو ما أعاده كانط في «المقدمات لكل ميتافيزيقا مستقبلة تريد أن تصير علماً»، إجابةً على أسئلة ثلاثة: ماذا يجب عليّ أن أعرف؟ والإجابة في «نقد العقل النظري»، وماذا يجب عليّ أن أفعل؟ والإجابة في «نقد العقل العملي»، وماذا يجب عليّ أن آمل؟ والإجابة في «نقد ملكة الحكم».
كما يتطلب ذلك الثقة بالنفس وبقدرتها على الفهم دون إحساس بالدونية أمام النص القديم أو النص الجديد، النص الموروث أو النص الوافد.
إن التعامل مع الوافد الغربي الحديث له سابقة في الوعي التاريخي العربي في التعامل مع الوافد اليوناني القديم. كان التعامل القديم من موضع ثقة بالنفس وقدرة على الحوار مع الآخر وإعطائه حقه.
وقد يكون الوافد الغربي واتجاهاته الرئيسية، الرياضية والعلمية والفلسفية، اكتشافاً للموروث القديم بالطريق الطبيعي والعقل الخالص والجهد الإنساني الصرف، دون أن يكون بالضرورة تأويلاً لنص. وبالتالي فإن الوافد الغربي ليس من صنع الغرب وحده، بل من صنع باقي الشعوب التي ساهمت في صنعه، ومنها شعوب الشرق القديم وشعوب الحضارة العربية الإسلامية. لذلك عندما تعرفت عليه التيارات الرئيسية في فجر النهضة العربية، الإصلاحية والليبرالية والعلمية، أخذته نموذجاً للتحديث، لأنها قرأت نفسها فيه، ووجدت ما ضاع منها قد أعيد إليها.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة