لا يزال أطول إغلاق للحكومة الفيدرالية الأميركية في التاريخ الحديث مستمراً، وتتزايد معه التكاليف بالنسبة للبلاد على وجه العموم، وبالنسبة للكونجرس وللرئيس دونالد ترامب على وجه الخصوص. وعلى الرغم من عدم تضرر جميع الهيئات الحكومية الاتحادية بالإغلاق، فإن الألم الذي يعانيه أولئك الموظفون الذين أوقفوا عن العمل يتفاقم يوماً بعد آخر. ولذلك تأثير واسع النطاق يضر كثيراً من الأفراد، والشركات التي لا تعمل مباشرة لدى الحكومة الفيدرالية الأميركية.
وسبب الإغلاق بسيط، وهو أن الرئيس ترامب يرغب في أن يصادق الكونجرس على تمويل بقيمة 5.7 مليار دولار من أجل بناء جدار مهيب لمنع وصول المهاجرين غير الشرعيين والمجرمين ومهربي المخدرات القادمين عبر الحدود الجنوبية مع المكسيك. وقد ردد الرئيس على مدى سنوات أن المكسيك ستدفع المال من أجل بناء الجدار، وهو ما رفضته الجارة الجنوبية دائماً وبكل حزم. أما الحزب الديمقراطي الأميركي، المسيطر في الوقت الراهن على مجلس النواب في الكونجرس، وبالتالي المتحكم في إقرار الموازنة الفيدرالية، فقد رفض دفع ذلك المبلغ من المال. ومن الممكن التوصل إلى اتفاق وسط، حيث يوافق الديمقراطيون على تخصيص بعض الأموال للجدار (أقل من 5.7 مليار دولار بالطبع)، مقابل إفساح الطريق أمام منح الجنسية الأميركية لبعض المهاجرين غير الشرعيين المؤهلين، لكن لا ترامب ولا الديمقراطيون في حالة مزاجية ملائمة لإبرام هذا الاتفاق في هذه المرحلة.
ولعل التأثير على أكثر من 800 ألف موظف، غير قادرين على العمل ولا يحصلون على أجورهم، له تداعيات أكبر بكثير على الأمن القومي الأميركي وعلى سلامة إمدادات الغذاء وحالات الطوارئ الصحية وآلاف من القضايا القانونية والإيرادات الضريبية التي لا يمكن التعامل معها. وهناك أيضاً آلاف من المقاولين في القطاع الخاص ممن يعتمدون على العمل مع الحكومة الفيدرالية، إضافة إلى المتاجر والمطاعم والمقاهي وأساطيل سيارات الأجرة.. جميعهم يخسرون أموالاً لن يتمكنوا أبداً من تعويضها. وإن كان الموظفون في الحكومة الفيدرالية سيحصلون على رواتبهم عندما ينتهي الإغلاق.
وتشي استطلاعات الرأي العام بأن أغلبية الأميركيين يوجّهون اللوم عن الأزمة الحالية إلى الرئيس ترامب، لكنهم لا يثقون في أن أياً من الحزبين السياسيين يمكنه فعل الكثير لإنهاء المأساة. وفي هذه الأثناء، أُغلقت مؤسسات وطنية إضافية أو أصبحت خدمات أخرى، بما في ذلك المتنزهات العامة والمطارات، عرضة لاحتمال الإغلاق.
وفي شهر ديسمبر الماضي، عندما جرت مناقشة حول الإغلاق الحكومي، ألمح الرئيس ترامب وعدد من كبار قادة الحزب الجمهوري إلى احتمال التوصل إلى حل وسط، بحيث يتم تقليص المبلغ المطلوب تخصيصه من أجل بناء الجدار، مقابل التوصل إلى صفقة بشأن إصلاحات أوسع بشأن الهجرة. لكن بمجرد تسريب هذا التصريح، شنّ المراقبون المتعصبون والمؤيدون لترامب حملةً إعلامية شعواء زعموا فيها أنه إذا تخلى ترامب عن الحصول على تمويل كامل من أجل إقامة الجدار، فإن رئاسته ستنتهي. وقد أذعن ترامب لهذه الضغوط، وهي السبب الرئيس في استمرار حالة الجمود القائمة. غير أن ثمة سبباً آخر هو السلطة الجديدة لـ«الديمقراطيين» (سيطرتهم على مجلس النواب عقب الانتخابات النصفية الأخيرة) وتصميمهم الواضح من أجل إجبار ترامب على التنازل. ويتزامن ذلك مع مزيد من الإفصاحات حول تعاملات ترامب مع روسيا وفلاديمير بوتين. وتشي تلك الإفصاحات بأنه إما كان ساذجاً بدرجة صادمة بشأن عزم روسيا (ومن قبلها الاتحاد السوفييتي) على تقويض المؤسسات الغربية مثل «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، وإما أنه (وهذا احتمال مستبعد إلى حد الآن) كان متورطاً في التعاون مع الروس من أجل المساعدة في انتخابه عام 2016.
وبينما يواصل ترامب إصدار تأكيدات ينكر فيها أي تآمر مع روسيا، يواصل المحقق الخاص «روبرت مولر» تحقيقه مع ظهور خيوط جديدة وربما اتهامات جديدة لأنصار ترامب المشاركين في حملته الانتخابية في عام 2016.
وللمرة الأولى في حياته السياسية والمالية، يواجه ترامب محاسبة حقيقية على تصرفاته. فعندما كان يدير إمبراطورية عقارية خاصة، وترأس برنامج تلفزيون الواقع «ذي أبرينتس» الذي حقق نجاحاً كبيراً، لم يتعين عليه أبداً أن يردّ على المساهمين أو مجلس الإدارة. فقد كان رئيس نفسه، ويفعل ما يريد. وقد كان محظوظاً أثناء العامين الأولين كرئيس للولايات المتحدة، إذ أمكنه الاعتماد على دعم كل من مجلسي الشيوخ والنواب، حيث كانت للجمهوريين أغلبية فيهما. لكن خسارة مجلس النواب لصالح الديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي، في نوفمبر الماضي، كانت ضربة قوية لترامب، وليس من الواضح ما إذا كان لديه الصبر أو المهارات اللازمة من أجل القيام بالتعديلات الضرورية بهدف تقاسم السلطة مع الفروع الأخرى للحكومة الأميركية. وإذا كانت الإجابة هي لا، فإن 2019 سيكون عاماً خطيراً وربما منهياً لرئاسته في البيت الأبيض.