في الـ16 من يناير الجاري، اجتمع ممثلو الطائفة المارونية في النظام اللبناني من نواب ووزراء عند البطريرك الماروني وبدعوةٍ منه. وقبل الاجتماع بأيام، وعندما كان نبيه بري، رئيس مجلس النواب، يحاول منع انعقاد القمة الاقتصادية والاجتماعية العربية بحججٍ مختلفة، وفي تحدٍّ جديد لرئيس الجمهورية الداعي للقمة، ارتفعت أصواتٌ مسيحيةٌ تقول إنّ الأزمة وطنية، ولا ينبغي مقابلتها باجتماعٍ طائفي يكون هدفه مثلاً تأييد مطلب إعطاء رئيس الجمهورية وحزبه الثلث الضامن في مجلس الوزراء الذي تعثر تشكيله طوال ثمانية أشهر!
بيد أنّ اجتماع بكركي بدءاً بكلمة البطريرك، وانتهاءً بالبيان الختامي، سار على غير ما خشيهُ المشككون، وما تأمّل منه المؤيدون. فقد ألقى البطريرك في افتتاح الاجتماع كلمةً جامعةً وممتازة، قال فيها إنّ الهمَّ الوطنيَّ وليس المسيحي هو الذي يحكم الاجتماع، فالموارنة هم مَن أنشأوا لبنان، وهم يريدون ويناضلون من أجل الحفاظ عليه، ولا يكون الحفاظ إلا بصَون العيش المشترك والطائف والدستور. أما رئيس الجمهورية فيريدونه قوياً لأنه الحافظ للدستور كما هو، لذلك فهم لا يقبلون الأعراف المستجدة، ولا ما يتردد من أفكارٍ ومشروعات مثل الاجتماع التأسيسي وتغيير الدستور لصالح المثالثة. وقد اعتبر البطريرك أنّ كلَّ هذه المشروعات مرفوضة لمنافاتها للطائف، ولما تُسبِّبه من اختلالٍ في العيش المشترك، وتأثيرات ضارّة على الهوية الوطنية. وما خرج البيان الختامي عن هذه المسائل التي ذكرها البطريرك، وإنما جرى تفصيلها في اثني عشر بنداً، وقد صاغتْه لجنةٌ من الحاضرين، تحولت إلى لجنة متابعة لتلك المقررات. كل نتائج الاجتماع، والذي حكمته كلمة البطريرك، كانت مفاجئة. المفاجأة في هذا الولاء المطلق للدستور، وللشرعية العربية والدولية. وهي أمورٌ تتكرر في «خطاب» بكركي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. لكنّ كثيراً من السياسيين المسيحيين ما كانوا في العقود الأخيرة يحبون ذكر الطائف والدستور باعتبار أنه ظلمهم وخفّف من صلاحيات الرئاسة. وقد أكدوا على صلاحيات الرئاسة وقوتها كما كانوا يفعلون، إنما هذه المرة من ضمن الطائف والدستور وتحت سقْفه. وهذا اكتشافٌ مسيحيٌّ لبنانيٌّ لدستور الطائف يدل على تغيُّرٍ في المزاج. وأسباب التغير معروفة. فقد سيطرت على المزاج المسيحي نزعةٌ قادها تيار عون تركِّز على الخصوصية المسيحية، وتعتبر الطائف متجاهلاً لها، وتقول بتحالف الأقليات من خلال اتفاق الجنرال مع زعيم «حزب الله» عام 2006 حتى إيصال الجنرال إلى رئاسة الجمهورية عام 2016.
لماذا تغير المزاج، وبخاصةٍ مزاج تيار الجنرال عون؟ خلال السنتين الأوليين من عهده ظلَّ الرئيس داعماً لـ«حزب الله» ولسلاحه في وجه القرارات الدولية. وخلال السنتين جرت تعييناتٌ في المناصب الكبرى بالدولة والجيش كانت الغلبة فيها لتيار الرئيس وإنما ليس على حساب الفريق الشيعي، بل فريق رئيس الحكومة. وخلال السنتين اتفق «التيار الوطني الحر» مع «حزب الله» على قانون الانتخاب الذي خسر فيه رئيس الحكومة ثلث نوابه، بينما فاز الحزب بكل نواب الشيعة وبعض السنة والمسيحيين. وفاز تيار عون بثلثي النواب المسيحيين. وهذا كله يعني أن الرئيس بادل الحزب جمائل بجمائل، وعلى حساب مصلحة البلاد، وسمعتها العربية والدولية، وسط صمت رئيس الحكومة أو موافقته باعتباره متحالفاً أيضاً مع رئيس الجمهورية. وهكذا شملت «التسوية» جميع الذين شاركوا في انتخاب عون، ودخلوا في حكومة سعد الحريري. والاستثناء أنه كان هناك توتر دائم بين الرئيس بري والوزير جبران باسيل، لكنّ الرئيس وزعيم الحزب كانا يتدخلان للتهدئة. وهكذا فأول خلافٍ كان بين الطرفين على أنّ الحزب ولكي لا تتشكل الحكومة بعد تجاوز عشرات العقبات طالب بأمرين: أن لا يكون للرئيس أحد عشر وزيراً(= الثلث الضامن أو المعطَّل)، وأن يحصل على وزير سني من الرئيس الحريري. وحاول باسيل الاحتيال بأن يكون السني المطلوب للطرفين عون والحزب، وهي حسبةٌ رفضها «حزب الله»، وبذلك فقد اشتعل النزاع الذي قاده بري من الطرف الشيعي، وباسيل من الطرف المسيحي.
والحقيقة أنّ تغير المزاج المسيحي ما كان بسبب وزير زيادة أو أقلّ، بل بسبب السياسة الأميركية الجديدة في محاصرة «حزب الله» وتمويله، وتهديد الأميركيين للقطاع المصرفي اللبناني بالويل والثبور وعظائم الأُمور إن تعامل مع الحزب. وهذا بالإضافة إلى سيطرة الحزب على المرافق مثل المطار والمرفأ ومؤسسات أُخرى كثيرة. وقد كان ذلك كله بين أسباب الضيق الاقتصادي الكبير الذي يعاني منه لبنان. ولذلك ما عاد كثير من المتمولين المسيحيين والسياسيين، يريد تبعيةً معلنةً لإيران وسوريا و«حزب الله». ولهذا أيضاً وافقوا في بكركي على بيان الثوابت الكبرى، وسيحاول بعضهم التراجع إن اشتدت عليه الضغوط.
تغير المزاج لا يكفي، لكنه استئناف جيد للمسيحيين اللبنانيين طال انتظاره.

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت