في الوقت الذي دخلت فيه حركة «السترات الصفراء» في فرنسا أسبوعها العاشر بزخم منتظم، صوّت البرلمان البريطاني ضد الاتفاقية التي وقعتها رئيسة الحكومة «تيريزا ماي» مع الاتحاد الأوربي في إطار بنود خروج المملكة المتحدة من الاتحاد، مما خلّف هزة سياسية عنيفة في الحقل السياسي البريطاني.
ما نلمسه بوضوح في ما وراء الاختلاف الظاهر بين الحدثين، هو نفس الحالة السياسية الجوهرية التي هي الأزمة العميقة للنموذجين الرئيسيين للديمقراطية الأوربية.
ومن المعروف أن الحداثة السياسية انطلقت من هذين البلدين الكبيرين المترابطين في المسار التاريخي، وإن اختلفَا نوعياً في طبيعة المرجعية السياسية. في بريطانيا قامت الثورة الدستورية في القرن السابع عشر في سياق عملية إصلاح ديني وسياسي متدرج ومرن، أفضى إلى بلورة مؤسسات تمثيلية صلبة تمحورت حول النظام البرلماني القوي، في حين قاومت فرنسا الإصلاح الديني ونشأت فيها ثورة دموية عنيفة أفضت إلى تقليد جمهورياتي مركزي يتحول ويتطور عن طريق التمرد والقطائع الحادة.
في بريطانيا هيمنت النزعة الليبرالية في بعديها الاقتصادي والسياسي، وتوزعت إلى تيارين متعارضين ما زالا إلى عهد قريب يهيمنان على الساحة السياسية: تيار محافظ ينطلق من مفهوم سلبي للحرية من حيث هي الفردية المستقلة النشطة التي تتعين صيانتها من قبضة السلط العمومية وتدخل الدولة، وتيار اجتماعي يرى الترابط بين مبدأ الفردية والاندماج الاجتماعي ضمن تصور إيجابي للحرية. التيار الأول تحول في السبعينيات إلى نمط من النيوالليبرالية (الليبرالية الجديدة) التي كرستها تجربة رئيسة الحكومة الراحلة مارغريت تاتشر في سياساتها الاقتصادية القائمة على الخصخصة القصوى والفردية النفعية وإعلاء قيم التنافسية والفاعلية الإنتاجية، مقابل السياسات الاجتماعية الإدماجية، في حين تحول التيار الثاني في عهد رئيس الحكومة الأسبق توني بلير إلى نوع من النزعة الاشتراكية الديمقراطية بالبحث عن تأليف فعال بين الديناميكية الرأسمالية والعدالة التوزيعية الاجتماعية، وقد أخذ هذا التيار تسمية «الطريق الثالث» (في تبنٍّ لأطروحة عالم الاجتماع انتوني غيدنز الشهيرة).
النموذجان يتعرضان اليوم لهزة عنيفة، سواء تعلق الأمر بالتيار الاجتماعي (حزب العمال) الذي يسيطر عليه راهناً الاتجاه اليساري الراديكالي الشعبوي (اتجاه جيرمي كوربين أمين عام حزب العمال الحالي) أو الاتجاه الحافظ الذي تمثله رئيسة الحكومة التي دخلت لمركز السلطة إثر أزمة البريكست وظهر عجزها الفادح عن إدارتها.
أما فرنسا التي لم يكن يوماً التيار الليبرالي قوياً فيها، فقد انقسمت فيها الحياة السياسية بين قطبين؛ يميني قومي ويساري راديكالي، ولم تعرف البلاد الاستقرار السياسي الحقيقي إلا في المرحلتين الديغولية والميترانية اللتين تمت فيهما صياغات تأليفية متباينة بين هاتين النزعتين المتولدتين عن الثورة الفرنسية.
وهكذا فشل اتجاه نيكولا ساركوزي إلى توحيد اليمين في شكل حزب ليبرالي جديد وانتهى الائتلاف الذي شكله إلى حزب ممزق ما بين تيار محافظ مدعوم من الكتلة الكاثوليكية التقليدية وتيار نيوليبرالي على الطريقة التاتشرية، كما فشلت محاولة خلفه فرانسوا هولاند في إصلاح الحزب الاشتراكي وأنهار الحزبان الكبيران في انتخابات 2017 التي فاز بها الرئيس الحالي ماكرون الذي حاول إحداث صياغة تأليفية جديدة في الحقل السياسي الفرنسي وظهر من الأحداث الأخيرة أنه في طريق الفشل المحقق.
على اختلاف التجربتين والمسارين، يمكن ضبط خلفية مشتركة للتمرد الانتخابي في بريطانيا (الاستفتاء والتصويت البرلماني الأخير) وتمرد الشارع في فرنسا (حركة السترات الصفراء)، وهي انهيار القاعدة المؤسسية للنظام الديمقراطي في البلدين، التي تتشكل من الوسائط التمثيلية من أحزاب وتنظيمات مدنية ونقابية، رغم التباين المعروف بين السياق الليبرالي الإنجليزي والسياق الجمهورياتي الفرنسي.
في السياق الاجتماعي الجديد الذي انهارت فيه الوسائط المجتمعية للحقل السياسي، تحول النسق العمومي، حسب عبارات الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبريه، إلى عالم سيال متدفق الحركة، لا مكان فيه للفراغ، شكل الترابط الوحيد الممكن فيه هو الشراكة المصلحية الظرفية، مقابل الانتماءات العضوية الصلبة، التواصل فيه افتراضي بين ذرات منعزلة لا شيء يجمع بينها، والشرعية السياسية الوحيدة المتاحة فيه للحكم هي إدارة الأوضاع الاستعجالية المستمرة.
ومن هنا يغدو التحدي الأكبر هو كيف يمكن تسيير ديمقراطية الاحتجاج والتمرد في غياب آليات ومؤسسات ناجعة لتثبيت الثقة في النظام السياسي القائم.
يتساءل الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك الذي تحمس للرئيس ماكرون عند وصوله للسلطة: كيف يمكن إصلاح فرنسا الذي أصبح مطلباً عاجلا إذا كانت المقصلة قريبة تهدد دوماً رقبة الحاكم؟