منذ نجح عالمان فرنسيان، قبل أكثر من ثلاثة عقود ونصف، وبالتحديد عام 1983، في اكتشاف الفيروس المسؤول عن مرض نقص المناعة المكتسب، أو الإيدز، ثم إدراك المجتمع الصحي الدولي بأن انتقال الفيروس من شخص إلى آخر، لا يقتصر فقط على الشواذ جنسياً، أو متعاطي المخدرات بالحقن، بل يشمل أيضاً الانتقال جنسياً بين غير الشواذ، ومن الأم إلى جنينها وطفلها، وبسبل أخرى عديدة مثل نقل الدم لدواعٍ طبية، مما جعله مرشح للتسبب في وباء عالمي أو جائحة. وللأسف، ظل الأطباء عاجزين لسنوات عديدة عن إبطاء معدلات الإصابة بهذا الفيروس اللعين، أو وقف انتشار العدوى في مختلف أصقاع الأرض، أو في خفض الوفيات الناتجة عن وباء عالمي، عرف حينها بطاعون العصر.
وبالفعل، بالمقارنة بين أوبئة الأمراض المعدية التي حصدت أرواح الكثيرين من البشر، خلال مراحل التاريخ المختلفة، يصنف فيروس نقص المناعة المكتسبة ضمن أشرسها، وأكثرها ضراوة. ففي خلال العقود القليلة الماضية، تمكن الفيروس من عدوى أكثر من 70 مليون شخص، لقي 35 مليون منهم حتفهم. وحالياً يوجد 37 مليوناً آخرون ينهش الفيروس خلايا جهازهم المناعي، يتلقى 22 مليوناً علاجاً، بينما يظل 15 مليوناً آخرون من دون أي علاج يذكر، في انتظار مصيرهم المحتوم. وبلغت المخاوف حينها درجة إيمان البعض بأن وباء الإيدز أصبح يهدد الجنس البشري بالفناء، وهي المخاوف التي جسدها تقرير الأمم المتحدة للتوقعات السكانية المستقبلية الصادر بداية عام 2003، والذي توقع أن النمو السكاني البشري سوف يتراجع بشكل كبير خلال العقود التالية، بسبب مئات الملايين من الوفيات التي ستحدث بسبب فيروس الإيدز. وهو ما أدى بالمنظمة حينها إلى مراجعة توقعاتها المستقبلية، وخفض العدد الإجمالي المتوقع للبشر بحلول عام 2050 من 9.3 مليار إلى 8.9 مليار فقط. وبحسبة بسيطة نجد أن الفارق بين الرقمين 400 مليون شخص، هو عدد الأشخاص المتوقع وفاتهم أو فقدان نسلهم بسبب مرض الإيدز بحلول منتصف القرن الحالي.
وغني عن الذكر هنا أن الواقع الطبي في السنوات والعقود الأولى من وباء الإيدز، قد اختلف كثيراً عما هو الآن، بسبب سلسلة من الاختراقات العلمية على صعيد فهم طبيعة الفيروس، وطرق انتقاله من شخص لآخر، مما مكن من تفعيل إجراءات وتدابير وقاية فعالة، مع تطوير فحص سهل وسريع نسبياً للكشف عن الإصابة، وتحقيق اكتشافات مهمة وعديدة في مجال الأدوية والعقاقير المعروفة بمضادات الفيروسات. وإن كانت قصة النجاح هذه لم تكتمل بعد، بالنظر إلى أن الفيروس ما زال حياً يرزق داخل جسد 37 مليون شخص، لا يتلقى 15 مليوناً منهم العلاج المناسب حالياً، يضاف إليهم سنوياً 1.8 مليون حالة عدوى جديدة، كما يلقى أكثر من مليون شخص حتفهم كل عام. هذه الأرقام على فداحتها، تعتبر أفضل مما كانت عليه قبل أعوام قليلة، حيث كان معدل حالات العدوى الجديدة يزيد على 3 ملايين شخص سنوياً حتى عام 2001، بينما كان عدد الوفيات السنوي يقارب الـ2 مليون وفاة في عام 2005.
وبرغم هذا التحسن والإنجاز الهائل على صعيد عدد الإصابات والوفيات خلال سنوات قليلة، إلا أن الثمن الإنساني، الذي ما زال فيروس الإيدز يحصده من الجنس البشري عاماً بعد عام، يظل غير مقبول، في عصر تمكن فيه العلم من إعادة ترتيب وهندسة الجينات داخل الخلية البشرية، وتتزايد فيه الآمال في استيطان كوكب المريخ في غضون عقود قليلة. ولذا، لغرض استكمال قصة النجاح تلك، والقضاء على فيروس الإيدز تماماً، ليلحق بفيروس الجدري، أو على الأقل حصاره بشكل تام كما هي الحال حالياً مع فيروس شلل الأطفال، لا بد من تفعيل إجراءات ومبادرات صحية عدة على الصعيد الدولي. أحد تلك الإجراءات أو المبادرات، هو توسيع نطاق ومدى استخدام الفحص الذاتي أو الشخصي، وهو الإجراء الذي شرعت 50 دولة حول العالم في سياسات وسبل تطبيقه، وإن كانت بقية دول العالم ما زالت من دون سياسات واضحة أو محددة تجاه هذا الفحص.
الإجراء الآخر الذي يوصي به العاملون في مجال مكافحة الإيدز، هو تدعيم برامج مكافحة الأمراض المعدية، مثل السل، والتهاب الكبد الفيروسي، بالتمويل المالي والدعم الفني الكافيين، بالنظر إلى أن واحدة من كل ثلاث وفيات بين مرضى الإيدز، سببها العدوى بميكروب السل، ويحيا 5 ملايين منهم وهم مصابون بفيروس التهاب الكبد الوبائي أيضاً.