ينتقد كتاب «ستيفن والت» الأخير، «جحيم النوايا الحسنة»، استراتيجيةَ الهيمنة الليبرالية التي انتهجتها كل الإدارات الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة. وبرأي الكاتب، فإن هذه الاستراتيجية مثّلت إخفاقا باهظ الثمن. ولكن الكتاب يتعلق أيضاً وعلى الخصوص بنقد لمراكز البحوث والدراسات الأميركية الشهيرة. فبغض النظر عن الاختلافات الثانوية الموجودة بينهم، إلا أن الليبراليين و«المحافظين الجدد» معاً يدافعون عن استراتيجية الهيمنة الليبرالية، ويعتقدون أنه بوسع الولايات المتحدة اتباع هذه الاستراتيجية الطموحة دون أن يثير ذلك معارضة حقيقية.
«ستيفن والت»، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد الأميركية، لا ينظر إلى هذه الاستراتيجية على أنها نتيجة مؤامرة من قبل بعض الأفراد الذين يبحثون عن امتياز شخصي، وإنما باعتبارها نتيجة لسياسة يتّبعها أفراد مقتنعون بصدق بأن هيمنة الولايات المتحدة على العالم مفيدة لكليهما. ولكن وعلى غرار المصرفيين الذين كانوا سبباً في أزمة 2008 المالية، فإن الأشخاص الذين رسموا السياسة الخارجية الأميركية لم يدانوا أو يحاسَبوا عن الأخطاء الكارثية التي تسببوا فيها.
«والت»، الذي استند إلى عدد من استطلاعات الرأي، يذكّر بأن الرأي العام الأميركي أقل تأييداً بكثير لسياسة خارجية تدخلية من مراكز البحوث. ولهذا السبب اكتسب الرئيس دونالد ترامب - في هذا المجال أيضاً - شعبية من خلال معارضته للخبراء.
النخبة التي يمثّلها الخبراء الاستراتيجيون هي عبارة عن طبقة مؤلفة من أفراد محظوظين يزدرون الاحتمالات البديلة بشكل عام ومحصَّنون مهنياً وشخصياً من عواقب السياسات التي وضعوها. ومن بين الانتقادات الموجهة للعاملين في هذا الحقل هناك زواج سوق العمل بالشؤون الخارجية، وضرورة البقاء ضمن إجماع معين والالتزام به من أجل التقدم والترقي في هذا المجال.
القوة العسكرية التي تتميز بها الولايات المتحدة تدفعها لتفضيل المقاربة العسكرية على المقاربة الدبلوماسية. والحال أنه ليس بهذه الطريقة يمكن محاربة الإرهاب، سواء أردنا خلق ثقافة سياسية أو بناء مجتمع. وبالنسبة لـ«والت»، فإن معظم مراكز الأبحاث الأميركية مرتبطة بمصالح معينة. وهدف هذه المراكز ليس البحث عن الحقيقة أو مراكمة المعارف، وإنما التسويق السياسي للأفكار التي يتبناها ويؤيدها رعاتهم وممولوهم.
والواقع أن هذه المراكز تحظى بإعجاب واحترام بقية العالم نظراً للجودة الفكرية للأشخاص الذين يعملون فيها، وحركيتهم الفكرية، والإمكانيات المعتبرة الموضوعة رهن إشارتهم. غير أنها تخضع لتأثير ما يسمى «إجماع واشنطن» الذي يطرح «وصفة» إصلاحية خاصة في الأمور المالية والاقتصادية. وكل من يخرج عن هذا الإجماع تصبح فرصه قليلة في الحفاظ على مكانه أو في الانضمام إلى مركز أبحاث آخر. وحسب «والت»، فإن مراكز الأبحاث الأميركية، التي تعتبر محط إعجاب العالم برمته، أصبحت منظمات للدفاع والترافع متنكرة في شكل هيئات بحث مستقلة (ص 100). يتمثل دورها في توفير ذخيرة فكرية في حرب سياسية، وهي واعية بمصالح المتبرعين الرئيسيين.
غير أنه عندما تطبَّق سياساتُهم ويصبح طابعُها الكارثي واضحاً، يصبح بإمكان الخبراء الذين عملوا في الإدارات العودة إلى مزاولة أنشطة أخرى من دون مشاكل. وعلى سبيل المثال، فإن صورة ومصداقية «المحافظين الجدد» لم تتأثر سلباً بكارثة حرب العراق، ذلك أنهم ما زالوا يستفيدون حالياً من المناصب نفسها في واشنطن ويواصلون الترويج للنسخة «الصقورية» نفسها للهيمنة الليبرالية، كما يقول «والت» متأسفاً.
وبالمقابل، فإن التبصر لا يكافَأ دائماً. ففي سبتمبر 2002، يتذكر «والت»، حذّر 33 باحثاً في العلاقات الدولية من مغبة شن حرب العراق، معلنين أنها لا تصب في مصلحة الولايات المتحدة. والنتيجة هي أن أياً من هؤلاء الباحثين لم يُعرض عليه، منذ ذلك الوقت، أي منصب في الإدارة أو فرصة للاستماع إليه في المجموعات المرموقة في ما يتعلق بالسياسة الخارجية.
والواقع أنه عندما تنعم دولة من الدول بقدر كبير من الأمن مثل الولايات المتحدة، فإن إقناع مواطنيها بتقمص دور زعيم عالمي لا يكون سهلاً. كما أن الموقع الجيوسياسي المحظوظ للبلاد وتاريخها يزيدان من تعقيد الأمر أكثر. ولكن لأسباب تتعلق بالميزانية، لدى الوكالات الحكومية المختلفة مصلحة في الدفاع عن سياسة تدخلية أكبر. وهذا هو ما يفسر لماذا يبدو الجمهور أقل تحمساً للتدخلات الخارجية من الخبراء والمختصين.