اليوم الثالث من الشهر الثاني لـ«عام التسامح» ورقة للتاريخ، لن تُنسى، حيث تتجلى في التقويم الإماراتي مفكرة نادرة بُذلت لأجلها الجهود المخلصة، سُطرت بهمم الكرماء وجهد العقلاء، ضامةً حدثاً يُعد الأول من لونه في منطقة الخليج العربي، باستضافة قداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، و«أخيه» فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، لتتجلى للسلامِ معانٍ في أبهى حللها، ناثرةً عبقها بالتقاء الإنسان أخيه الإنسان، في حضرة «الإنسانية» حيث تعلو ولا يعلى عليها.
ففي حين يواجه العالم من برعمه ليانعه هذه الضرورة الملحة زمانياً ومكانياً، التي فرضت صورتها «الخشنة» بفعل محاولات أصحاب «الأيادي المثقوبة»، أدلجة الأفكار وانحراف الركب عن شق الخيرية للبشرية، وتحوير المعاني وإلهاب ألسنة التفرقة وخلق «التخلف» من الاختلاف، نجد مرامي الأراضي الإماراتية من أدناها لأقصاها تبذخ بالجود، صانعةً أنموذجاً تتكاتف له الأجيال وتجتمع السواعد ليقَدَم للعالم بلا استثناء على طبق من حب!
الإمارات تشهد قيادةً وشعباً وأرضاً، اتحاد نسيج واحد متراحم متعاضد، يلملم الاختلافات والتنوعات بانياً بها جسراً حضارياً ممتداً، داعيا الأمم للصعود عليه، ارتقاءً ونهوضاً بفكرها ورؤاها وأخلاقها وإنسانيتها، ولمجتمع متعايش متسامح متآخٍ، يشبه في سحره صورة تعانق مآذن المسجد مع أجراس الكنيسة والدير والمعبد، مع كل إشراقة شمس أو غروبها. فلهذه البلاد تاريخ عريق في التعايش بين الأديان وحرية ممارسة الشعائر الدينية، لم يقف على تأسيس أول كنيسة كاثوليكية - عام 1965-، في العاصمة أبوظبي، ولم يهمل إرثاً وجد في أعماقها كالذي عثر عليه من بقايا كنيسة يرجع تاريخها للقرن السابع الميلادي. ولم يتخذ من وجود ما يقارب 76 كنيسة ودار عبادة للديانات والعقائد المختلفة حصةً كافية لإشباع «الأخوة الإنسانية» التي فطرت عليها النفس البشرية السليمة، فعلى هذه الأرض ما يستحق «الحب» ولذا تجد صفوف المسلمين يتوافدون لإجابة نداء الصلاة المفروضة «الله أكبر» في مسجد يعلوه اسم «مريم أم عيسى»- عليهما السلام- في منطقة المشرف، ترسيخاً للصلات الإنسانية بين أتباع الديانات التي حثنا عليها ديننا الحنيف والقواسم المشتركة بين الأديان السماوية. كما امتد ذلك لمحاولات جادة وفاعلة أكثر عمقاً وتوسعاً لتأصيل وتثبيت جذور المحبة والوئام والتعايش المجتمعي المشترك، لتبنى على قواعد متينة مصونة غير قابلة للانصهار بمحاولات التشويه الظلامية للصورة «الإنسانية» العليا بل جاذبة ومرحبة لكل بني الإنسان للاجتماع على طاولة تفاهم وازدهار وبناء بدلاً من التراجع والتخلف والانقياد خلف وهم «الاختلاف».
إن هذه الزيارة التاريخية تعتبر من أقوى المواثيق المكرسة لثقافة التسامح ومقومات التعايش الإنساني ضمن إطار مؤسسي يسعى لتحقيق أهدافه المنشودة في المنطقة، إذ تجمع بين كبرى المرجعيات الدينية المسلمة والمسيحية، بحنو إماراتي تعتبر أرضه المركز العالمي للتعايش الإنساني والتسامح، كما يعكس كل من الأقطاب الدينية الزائرة رمزاً ذي دور رائد وبارز لما يمثل أتباعها من قضايا جوهرية وملحة.
كما تحمل هذه اللفتة الكريمة من دولة الإمارات النية الصادقة والدؤوبة لزراعة بذور القناعة الدولية المنبثقة من النموذج الإماراتي المبهر، بترسيخ احترام الأديان أيما احترام وقبول الآخر أيما قبول، إذ تعتبر دفعة معنوية قيمية للمقيمين والأجانب على أرضها، وأستاذاً عادلاً لم يبدأ بالتلويح بالتعليمات قبل أن يعيشها ويطبقها على أكمل وجه ممكن، ولربما يتولد للجمع العالمي شعور منطقي مشترك مبشر بولادة أنموذج السلام والمحبة، بصناعة إماراتية شهدت عام عطاء توج بعام زايد منتجاً بزهو «عام تسامح»، خاطاً للنور والخير مغتنماً نعمة الاختلاف مولداً «دستور إنسانية»، في أسمى التقاء للأخوة الإنسانية والتعايش السلمي، فأهلاً رُسل السلام، وبوركتم وبوركت جهودكم.