منذ فجر الثورة الزراعية، قبل عشرة آلاف سنة أو أكثر، اعتمد الإنسان في غذائه اليومي على حليب العديد من الحيوانات الثديية المستأنسة، مثل الماعز، والأغنام، والجاموس، والبقر، والنوق، وأحينا حليب إناث الخيول، وحيوانات الرنة والياك. وحاليا يستهلك أفراد الجنس البشري أكثر من 700 مليون طن من الحليب سنوياً، تنتجها 250 مليون بقرة، ضمن نشاط اقتصادي يعمل فيه عشرات الملايين من البشر، وتحتل الهند فيه رأس قائمة الدول الأكثر إنتاجاً للحليب، يتبعها في ذلك الولايات المتحدة، ثم الصين والبرازيل.
ولطالما كانت الحكمة السائدة هي أن الحليب من الأطعمة المغذية والصحية، كونه سائلاً مركزاً من البروتينات، والدهون، والكربوهيدرات، ونتيجة احتوائه على كميات كبيرة من عنصر الكالسيوم، ومن فيتامين (د)، وهو ما حدا بالحكومة الأميركية إلى إصدار توصيات للبالغين والأطفال أكبر من 9 سنوات، بضرورة تناول ثلاثة أكواب من الحليب منخفض أو منزوع الدسم يومياً، ضمن التوصيات الغذائية الصحية العامة.
إلا أن هذه التوصيات بدأت تنظر مؤخراً للحليب بنظرة مغايرة، وهو ما تجسد بداية الأسبوع الماضي في تراجع مكانة الحليب في التحديث الأخير للتوصيات الغذائية الصادرة عن الحكومة الكندية، بعد ثلاث سنوات من النقاش والدراسة، بحيث لم يعد هناك بند مستقل يدعو لتناول الحليب بشكل مستقل ويومياً، بل تم دمجه مع أنواع البروتينات الأخرى، والتي يجب على الشخص تناولها بشكل يومي، سواء كان مصدرها من الحليب أو من مصادر البروتينات الأخرى الحيوانية أو النباتية. ويأتي هذا التراجع في أهمية الحليب ضمن مكونات الغذاء اليومي الصحي في التوصيات الكندية، في أعقاب تراجع أقل حدة في مكانة منتجات الألبان، ضمن التوصيات الغذائية الصحية الصادرة عن الحكومة الأميركية عام 2011. يأتي هذا التغير في النظرة العلمية الغذائية للحليب ومنتجاته، حتى وإنْ كان جزئياً، نتيجة تزايد القلق من أنه قد يكون سبباً للضرر الصحي، حيث لم يعد الجميع يتفقون على أن الحليب غذاء صحي دائماً، أو على الأقل لجميع الأشخاص. أفضل مثال على ذلك هو الحالة المعروفة بعدم تحمل اللاكتوز –السكر الرئيس في الحليب- والتي تشير البيانات إلى أنها تصيب مئات الملايين من البشر، وتؤدي إلى إصابتهم بأعراض مختلفة، مثل المغص، والانتفاخ، والإسهال، والغازات، والغثيان. ويتباين مدى انتشار هذه الحالة بين الشعوب المختلفة، من 5 في المئة فقط بين أفراد مجتمعات أوروبا الشمالية إلى 90 في المئة من جميع أفراد بعض المجتمعات الآسيوية.
وترتكز المخاوف الصحية المرتبطة بمنتجات الألبان على عدة محاور، منها حقيقة أن كون الحليب هو سائل حيوي يفرز من غدة الثدي لإناث حيوانات مختلفة في النوع والفصيلة عن الإنسان، وهو ما قد يؤدي إلى رد فعل مناعي من الجسم، في الشكل المعروف بحساسية الحليب. كما أن احتواء الحليب على بعض الأحماض الأمينية قد يؤثر على العمليات الأيضية على من يتناولونه، وعلى معدلات النمو لديهم. هذه الخاصية وإن كانت مفيدة في الأيام والسنين الأولى من مرحلة الطفولة، قد تؤدي إلى نتائج عكسية بين مستهلكي الحليب في المراحل اللاحقة من الحياة، ولذا يتخوف البعض من أن تناول الحليب بعد سنوات الطفولة، يحتمل أن يكون عامل خطر خلف الإصابة بما يعرف بأمراض الأغنياء، مثل السمنة والسكري.
المحور الآخر الذي ترتكز عليه مخاوف البعض من كون الحليب يحمل في طياته مخاطر صحية، هو زيادة اعتماد منتجي الحليب على هرمون النمو البقري، لغرض زيادة إنتاج الحليب. ورغم أن هيئة الأغذية والعقاقير الأميركية تجيز إنتاج واستهلاك الحليب من أبقار تم حقنها بهذا الهرمون في الولايات المتحدة، إلا أن بعض الدول الأخرى، مثل كندا، ونيوزيلندا، وأستراليا، واليابان، لا تجيز بيع حليب أبقار تم حقنها بهرمون النمو.
وبالإضافة إلى المخاوف سابقة الذكر، تشير بعض الدراسات إلى وجود علاقة بين تناول منتجات الألبان، وزيادة احتمال الإصابة بسرطان البروستاتا في الرجال، بسبب عمليات أيضية حيوية مرتبطة بفيتامين (د)، بالإضافة إلى ارتفاع مستوى عنصر الكالسيوم في الحليب. وإن كان عدد من الجهات والمنظمات الدولية العاملة في مجال الأمراض السرطانية، أفادت في آخر تقيم لها حول هذا الموضوع، بأن الأدلة العلمية المتاحة حالياً تظهر نتائج متعارضة ومتضاربة، وحتى تلك الأدلة التي ترجح وجود علاقة بين منتجات الألبان وبين سرطان البروستاتا، لا زالت محدودة لحد كبير.