علاوة على النجاحات التي حققها حتى الآن في اختراق الساحة الأفريقية، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد باشر نشاطه في أميركا اللاتينية حتى قبل فوز قوى ذات توجه يميني في القارة بانتخابات بلادها. ولعل النجاح الأكبر لنتنياهو في هذا الخصوص كان مع الرئيس البرازيلي «جاير بولسونارو» الذي حضر (رئيس الوزراء الإسرائيلي) حفلَ تنصيبه في أول زيارة يقوم بها رئيس حكومة إسرائيلية إلى البرازيل. وفي السياق ذاته، أكدت الحكومة الإسرائيلية أن زيارة رئيسها لأكبر دولة في أميركا اللاتينية، عززت المبادلات التجارية والاقتصادية بين الجانبين، وهو تبادل يبلغ حجمه نحو 1.2 مليار دولار أميركي. وكان نتنياهو قد قام في العام الماضي بأول جولة لرئيس حكومة إسرائيلية في أميركا اللاتينية، شملت كلا من الأرجنتين وكولومبيا والمكسيك، وقد سعى خلال تلك الجولة إلى توسيع علاقات إسرائيل الدبلوماسية والسياسية من خلال الصادرات التكنولوجية والعسكرية لتلك الدول، ولإقناع حكوماتها بالتصويت لمصلحة الدولة العبرية في منظمة الأمم المتحدة، خاصة عندما تواجه انتقادات بشأن مواقفها وممارساتها الدموية ضد الشعب الفلسطيني.
وكعادتها، استثمرت إسرائيل سلاح الاقتصاد والتكنولوجيا لاستمالة دول لاتينية ولتحسين الأوضاع الاقتصادية للدولة الصهيونية ذاتها. وقد بدأت تحركات نتنياهو «الاقتصادية» في عام 2013 حينما أعلن أن «الحلف الباسيفيكي لأميركا اللاتينية هو الهدف الاقتصادي المقبل الذي سيمكن الاقتصاد الإسرائيلي من الاستمرار في النمو والتوسع». وقد لخص رئيس قسم أميركا اللاتينية في وزارة الخارجية الإسرائيلية (مودى آفرايم) هذا الأمر مؤخراً بقوله: «اليوم هناك نحو 150 شركة إسرائيلية تعمل في المكسيك، وأكثر من 100 شركة في كل من كولومبيا والأرجنتين، كما يوجد في البرازيل نحو 200 شركة إسرائيلية تنتج معدات تكنولوجيات متقدمة، و42 شركة إسرائيلية تنتج أنظمة ومعدات أمنية، و17 شركة تنتج معدات وأجهزة طبية». أضف إلى ذلك ما كشفته مؤخراً تقارير «شعبة الصادرات العسكرية التابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية»، عن «تلقي دول أميركا اللاتينية كميات كبيرة من الأسلحة الإسرائيلية ساعدت على تقوية علاقات تلك الدول بإسرائيل، مما انعكس فيما بعد على دعمها لها في المحافل الدولية، على رأسها القرارات الأخيرة لبعض دول أميركا اللاتينية بنقل سفاراتها للقدس»، وهي هندوراس وغواتيمالا وباراجواي، قبل أن تتراجع الأخيرة.
صحيفة «البايس» الإسبانية، نشرت تقريراً كاشفاً تحدثت فيه عن العلاقات الجديدة التي تسعى إسرائيل لتعزيزها مع دول أميركا اللاتينية، وتناولت البرازيل كمثال. وجاء في التقرير: «العلاقات التي تجمع بين البرازيل وإسرائيل ليست نتاج سياسة عقلانية لدولة ذات سلطة أو تحفيزاً للتعاون الدولي، وإنما هي ثمار الأيديولوجيات والأعراف والقيم. فنحن نعيش في حقبة زمنية محافظة ودينية بامتياز». ?
نشاط نتنياهو لم يكن سببه الوحيد إعادة العلاقات الدبلوماسية مع دول أميركية لاتينية بل جاء كذلك لمنع انهيار علاقات قوية مع دول أخرى مؤيدة للدولة الصهيونية تسير أصلا في الفلك الأميركي بالقارة اللاتينية، خاصة بعد قرار باراجواي التراجع عن نقل سفارتها إلى القدس المحتلة، الأمر الذي اعتبرته إسرائيل صفعة قويةً لها، وذلك بعد أسابيع من قرار آخر اتخذته كولومبيا، بالاعتراف بدولة فلسطين، وكلا الدولتين من الحلفاء المقربين لإسرائيل. وهذا الواقع يشير إلى أن قرارات بعض دول أميركا اللاتينية بدعم إسرائيل في السنوات الماضية ارتبطت باسترضاء الإدارات الأميركية في ظل اعتمادها إلى حد كبير على المساعدات من واشنطن، لكن الحال تغير مع سياسة ترامب («أميركا أولا») وتخليه عن كثير من حلفائه. وعن ذلك، قال «آري كاكوفيتش»، الأستاذ في الجامعة العبرية بالقدس، المتخصص في شؤون أميركا اللاتينية: «قادة القارة اللاتينية يتطلعون إلى كسب الولايات المتحدة للحصول على الدعم، وعلى الرغم من أن بعض تلك الدول تتطلع إلى تقوية العلاقات مع إسرائيل، إلا أن هذا ليس محور اهتمامها الأساسي، فعلاقتها مع الولايات المتحدة هي كل هدفهم ومرادهم من وراء تقوية العلاقات مع إسرائيل».
خلال الحروب الإسرائيلية المتوالية على «قطاع غزة»، تجاوزت معظم دول أميركا اللاتينية بيانات الإدانة لإسرائيل، إلى استدعاء بعض الدول هناك سفراءها من تل أبيب للاحتجاج على الهجمات الإسرائيلية الدامية ضد المدنيين والمدن والأحياء المدنية الفلسطينية، فيما خرجت مظاهرات ومسيرات في معظم دول أميركا اللاتينية تضامنًا مع قطاع غزة ومع القضية الفلسطينية عموماً. وعليه، فإن نجاح إسرائيل في الحصول على نفوذ وعلى شبكة من علاقات الشراكة في دول أميركا اللاتينية يعني خسارة صوت كبير داعم للقضية الفلسطينية. فهل ندعو من جديد جامعة الدول العربية، بل كل دولة عربية، إلى أخذ زمام المبادرة، السياسية والدبلوماسية، من أجل التصدي للنشاط الإسرائيلي في أميركا اللاتينية (وفي أفريقيا أيضاً) ومواجهته هناك، أم ترانا «ننفخ في قربة مثقوبة»؟!