حين أراد بعض العقلاء أن يقربوا بين البشر المختلفين في الألسنة والألوان والمشارب والأهواء والظروف الحياتية، ساروا في اتجاهين الأول هو حوار الحضارات والثاني يتعلق بحوار فعال بين معتنقي مختلف الأديان، متجاوزين أي خلاف حول العقيدة، لأنها مسألة غير قابلة للتفاوض ولا التنازل أو المساومة، إلى البحث عن مشتركات راسخة للتعايش والتفاهم والتعاون من أجل أن تكون الحياة أكثر سلاماً.
ففي ظل التفرقة الجلية بين «اللاهوت» و«الناسوت»، اقتنع كثيرون في نهاية المطاف، وبعد جولات عدة من النقاش والمداولة، أن الحوار يكون بين أتباع هذه الديانات، أو بين المتدينين أنفسهم، وينطلق من هذا إلى حوار أعمق بين الحضارات الإنسانية جميعاً. فالحضارة تشمل الدين، لكن الأخير لا يشملها، وفي الوقت نفسه فإن تجاذب أطراف الحديث حول الحضارات أخف وطأة على النفس وأيسر على العقل من التعامل مع العقائد. ووجه الشمول في المدخل الحضاري أنه يجمع بين الدين وغيره في نسيج واحد مترابط، فيبتعد الحوار عن المسائل العقدية ليركز على الثقافة النخبوية وطرائق المعيشة بما فيها العادات والتقاليد والموروث الشعبي ومستوى المعارف التي ارتقى إليها تجمع بشري ما، والأفكار المتداولة في لحظة التحاور، والآداب والفنون التي يتم إبداعها، وأنماط الإنتاج السائدة.
ويدخل كل هذا محل نقاش حول سبل استفادة كل طرف مما لدى الآخر من هذا المخزون الحضاري، المادي والمعنوي، وهنا يصبح الباب مفتوحاً أمام عطاء مجالات علمية وعملية عديدة ومنها السياسة والاقتصاد والاجتماع والفنون.
وقد اتجه الذين رفعوا شعار «حوار الأديان» إلى التحاور الثقافي والحضاري، غير منبت الصلة عن المصالح والسياقات العامة. والمثال الجلي على ذلك هو «المنتدى الكاثوليكي الإسلامي» الذي انعقد مطلع شهر نوفمبر من عام 2008، حيث تم نقل الحوار بين ممثلي أكبر عقيدتين سماويتين على الأرض من مجال العقائد إلى مسارات الحياة، وهي المسألة التي جسدها البيان الختامي للمنتدى بدعوته إلى إرساء نظام مالي أخلاقي يراعي أوضاع الفقراء والدول المدينة، وبتعهد الطرفين العمل معا لمكافحة العنف الذي يرتكب باسم الدين، إلى جانب التأكيد على ضرورة الدفاع عن الحريات الدينية، ورعاية حقوق متساوية للأقليات الدينية، واحترام الشخصيات والرموز الدينية أيضاً، وزيارة بابا الفاتيكان للإمارات تأتي ضمن هذا المسار.
فهذا المنتدى، الذي قرر منظموه أن يُعقد كل سنتين، أعطى البعد الحضاري للحوار بين المسلمين والمسيحيين زخماً جديداً، وقدم برهاناً ناصعاً على أن فكرة «حوار الحضارات» هي الأجدى في اللحظة الراهنة للتقريب بين البشر الذين قال فيهم رب العزة في محكم آيات القرآن الكريم: «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا».
وأطروحة «حوار الحضارات» لم تمت أمام المد الكاسح للمقولات والتصورات المضادة، التي بنيت على أساس الصراع والصدام باعتباره «حتمية تاريخية» والتي رمت إلى تسويق المشروع الإمبراطوري للولايات المتحدة الأميركية، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وانقضاء نظام «القطبية الثنائية». لكن حوار الحضارات واجه بفعل سياسات «المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة تحدياً كبيراً في المسار والمصير، وظهر في لحظة ما وكأنه حيلة من قبل الضعفاء لترويض القوة المفرطة لأميركا وحلفائها، دون أن يفقد المتحمسين له لأسباب إنسانية وقناعات سياسية في الغرب ذاته.
وربما يعود هذا إلى أن هناك إدراكاً لمعادلة حياتية تقول من دون مواربة إن الحضارة كانت دائماً وأبداً محور الالتقاء بين الشعوب المتنازعة، والتي كان صراعها السياسي والعسكري عادة ما ينتهي إلى التقاء حضاري تذوب فيه الخصومات، ويبدأ معه التفاعل الذي ينتهي إلى الاتصال والتعاون، والأخذ والعطاء، والتأثير والتأثر، والأهم من هذا وذاك التقاء الشعوب المتخاصمة، وبداية التعايش وتبادل الأفكار.
وقد أثبتت أطروحة «حوار الحضارات» أنها إحدى الوسائل المهمة والحيوية لإنقاذ العالم برمته من جنون الصراع المفتوح، الذي أعاد الاستعمار التقليدي إلى التاريخ بعد أن ظن كثيرون أنه رحل إلى غير رجعة، وأوقع العالم في أزمة مالية طاحنة، مدت أياديها السوداء فأضرت الجميع، وبرهنت على أن العالم ليس منقسماً إلى معسكرين متطاحنيْن، كما كان يطرح أسامة بن لادن في كلامه عن «الفسطاطين» ولا إلى عدة معسكرات يتحالف بعضها استعداداً لصراع ضروس بين الحضارات الإنسانية، كما زعم صمويل هنتنجتون، إنما هناك مخاطر مشتركة، وغايات متطابقة، تضع الجميع، أو حتى الأغلبية، في خندق واحد، أو على الأقل في خنادق متلاصقة.