الثقافة العربية مركز لدائرتين حضاريتين أخريين، الدائرة الأفريقية والدائرة الآسيوية. وتمر بنفس ظروف حضارات أميركا اللاتينية في أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية، والتي حاولت الحضارة الأوروبية الوافدة استئصالها مع الهجرات إليها بدعوى الكشوف الجغرافية. لذلك ظهرت تيارات العودة إلى الأصالة والحفاظ على الهوية من خلال ما تبقى من الحضارات الهندية والأمازونية والأوتريسكية ومناهضة الغزو من الشمال متمثلاً في الولايات المتحدة الأميركية بوصفها حصيلة الاستعمار البريطاني والفرنسي والإسباني والبرتغالي القديم.
وتتمتع أفريقيا بإمكانيات بشرية ومادية هائلة، لكنها مازالت تئن تحت ثقل الاستعمار القديم ومخلفاته، من تصحر وفقر ومرض وتشرذم وتغريب ثقافي. لقد أصبحت مقسمة بين «الأنجلوفونية» و«الفرانكفونية»، ولم تستطع اللغات الوطنية أو القومية فيها، مثل السواحلية وغيرها، أن تصبح لغة أفريقية عامة.
أما الدائرة الآسيوية فيمتد فيها نصف العالم العربي. وقد قامت «النمور الآسيوية» بنهضة صناعية واقتصادية هائلة تقوم على التجدد الحضاري والاستقلال الوطني. وأصبحت الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى تايوان وهونج كونج وسنغافورة، مع دول إسلامية مثل ماليزيا وبعض جمهوريات آسيا الوسطى مثل أوزبكستان.. تمثل تحدياً اقتصادياً وسياسياً وثقافياً للغرب. ونظراً لقرب العالم العربي من الغرب وقدوم الاستعمار الحديث منه، فقد مال العالم العربي إلى جناحه الغربي أكثر من ميله إلى جناحه الشرقي. مع أن الثقافة العربية القديمة انتشرت غرباً لدى اليونان والرومان، وشرقاً في فارس والهند.. في توازن بين الجناحين، إذ لم تفقد استقلالها وهويتها. ويتنبأ كثير من الفلاسفة بالقرن العشرين، مثل اشبنجلر، بأفول الغرب، وكذلك برجسون وهوسرل وشيلر ورسل وتوينبي ونيتشه.. الذين يعتقدون أن الشرق إلى نهوض. وقد عبّر عن ذلك جوزيف نيدهام في كتابه «العلم والحضارة في الصين القديمة»، وأنور عبد الملك في كتابه «ريح الشرق».. فهل يستطيع التجدد الحضاري أن يسير مع قوانين التاريخ.. من «ريح الغرب» إلى «ريح الشرق»؟
وإذا كان روح التاريخ قد انتقل قديماً من الشرق إلى الغرب، من الصين والهند وفارس وحضارات ما بين النهرين وكنعان ومصر القديمة، إلى الغرب -عبر اليونان والرومان والعرب- حتى أحط أخيراً في الغرب، أي أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.. فإن روح التاريخ قد تعود الآن من الغرب إلى الشرق، أي من أوروبا إلى آسيا عبر العرب أيضاً، وذلك نظراً للنهضة الآسيوية الحالية في الهند والصين وماليزيا وإندونيسيا وهونج كونج وتايوان وكوريا وتايلاند وسنغافورة.. وبالتالي يعود حلم جمال الدين الأفغاني من جديد لتأسيس «الجامعة الشرقية»، وحلم السلطان جالييف في تأسيس «جامعة شعوب الشرق» في مواجهة الهيمنة الغربية وعصر الإمبراطورية الأميركية وإسرائيل الكبرى.
لن تصمد ريح الغرب طويلاً وستطغى عليها ريح الشرق على الأمد الطويل، حتى ولو تعثرت حالياً لنقصٍ في الخيال السياسي، وضعف مجموعة الأربع وعشرين الأفريقية الآسيوية أمام قوة مجموعة الثماني. مازال مؤتمر باندونج حياً في الذكريات مع حركة تضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية ودول الجنوب والقارات الثلاث. ومازالت آثار قطار الشرق السريع من برلين إلى بغداد.. وشاعر النيل ينشد «غادة اليابان».. ولقب سيدة الغناء العربي «كوكب الشرق» يتردد.. وتساؤل محمد إقبال مطروحاً: والآن، ماذا نفعل يا أمم الشرق؟
إن المشروع النهضوي العربي الجديد هو حلم هذا الجيل الذي شاهد إخفاق المشروع النهضوي العربي القديم. لعله يكون أسعد حالًا، وأوفق حظاً.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة