في حوار دار معي حول القراءة والقراء قالت محاورتي (غالبية القراء اليوم يبحثون عن الكلمات المختصرة.. ومن يريد الانتشار عليه باختصار حديثه واختزاله في جمل قصيرة ومكثفة ولا يبتعد عن اهتماماتهم). توقفت عند طرحها. وتساءلت: هل فعلاً العبارة المختصرة تغنينا عن عمق المعرفة؟ وهل بالفعل غياب التفاصيل يمكن أن يكون قادراً على توصيل الفكرة وخلق دوامات من الأفكار في عقل المتلقي؟ أليس الوقوف عند حد اهتمام القراء هو تكبيل لحرية الكاتب؟
قد تتناسب تلك العبارات المختزلة مع طبيعة الحياة في العصر الحاضر لما تتمتع به من سرعة في الحركة والإيقاع المتدافع، وكأن العالم كله في حالة رهان مع الزمن، ولكن أجد أن من يريد أن يُكون معرفة حقيقية لابد له من القراءة المعمقة التي تجعل أرضية الفكر خصبة بالكثير من العناصر المعرفية والتفاصيل الفكرية التي تسهم في شحن طاقة العقل ليصبح قادراً على إعادة إنتاج الأفكار، فمهما كان نوع القراءة سواء أكاديمية تعليمية أو حرة، فنحن نحتاج للتفاصيل ونحتاج للغوص في أعماق الأفكار وإحداث تفاعل ما بين مدخلات المعرفة وبين مخرجاتنا الفكرية، التي هي الهدف في النهاية من تلك العلاقة القرائية ما بين العقل والنص المكتوب. ومن دون التعمق والإدراك لكافة تفاصيل النص ستكون حالة التفاعل منقوصة غير مكتملة الإدراك وحتما ستكون المخرجات أيضاً غير مكتملة وقد تكون في اتجاه خاطئ لا يتناسب مع طرح النص المقروء.
القراءة حرية؟.. نعم القراءة هي ممارسة للحرية، وهي صانعة لها فالقراءة الحرة تجعلك تبحر في عوالم فكرية متنوعة ومتباينة من دون قيود تحريمية وعقائدية..عندما أسمع أحداً يقول عن كتاب قرأه (لن أسمح لأبنائي أو لأحد أن يقرأ هذا الكتاب) هنا أقف منزعجة أمام هذا التزمت بالرأي..هذا رأيه الشخصي والتعميم خطيئة كبرى، فهو يُنصب نفسه النموذج الذي يقيس عليه كل العالم، وإنْ دل هذا على شيء فإنما يدل على خلفية ثقافية وفكرية لم تخرج من حدود التبعية والجمود الفكري والنظر للحياة من خلال ثقب صغير في العقل، رغم أن خلف هذا الثقب براحاً عظيماً من الفكر والمعرفة والحرية، وتأثير هذا الانغلاق واضح في منعه لقراءة هذا الكتاب الذي من وجهة نظره لا يصح قراءته لأن أفكار الكاتب لا تتطابق مع أفكاره وخلفيته الفكرية، وتتعارض مع معتقداته.. لابد أن تدرك أنك لست كل العالم.
السؤال يا قارىء حرفي: من أعطاه تلك السلطة ليُنصب نفسه قاضياً فكرياً يمنع ويجيز؟ وهنا نجد أنفسنا أمام واحدة من أهم الأزمات المجتمعية والثقافية، التي تكبل خطوات المجتمعات نحو التطور والحضارة، وهي أزمة قبول الآخر المختلف، فكيف ينمو فكر إذا لم يتعرض لكثير من المعرفة المغايرة والقراءة المتنوعة لمن أتفق أو أختلف معه، والاختلاف دائماً هو أكثر إيجابية، فهو يخلق فكراً وتحدياً جديداً ومعرفة جديدة يجعلنا نطرق أبواباً لم نطرقها من قبل، ونفتح طرقاً جديدة للخروج من متاهة الفكر الإنساني.
وانطلاقاً من قناعتي أدعوك يا قارئ حرفي للتنوع في القراءة وقبول أفكار الآخر حتى تنضج فكرياً وتنفض عنك أفكاراً رسخت في عقلك تمنع التنوع حتى تكون صاحب رؤية ومعرفة متوازنة وبذلك تستطيع الخروج من تلك الشرنقة التي تضع نفسك فيها ولا تقبل الخروج منها خوفاً من الانسلاخ عن تلك المعتقدات القديمة لأنها شكلت تفكيرك غير القابل للحوار مع الآخر المختلف والبحث عن أراضي مشتركة والخروج خارج إطار المعتقد الذاتي، ففي العالم الكثير من الأفكار والأشياء التي تستحق أن نتوقف عندها.. الخروج من تلك الشرنقة يجعلنا أكثر قدرة على خطاب الآخر ونكون أكثر حضوراً على الساحة الفكرية والثقافية بوعي كاف، يجعلنا نحافظ على خصوصيتنا وهويتنا الثقافية من دون أن نغلق أمام الآخر أبواب الالتقاء عند تلك الزوايا المشتركة بيننا، فمهما اختلفنا، فدائماً هناك ثمة مشتركات تجمع كل العالم. انطلق يا قارئ حرفي لحرية الفكر، التي لا قيود فيها، بل هي حرية كاملة في اختيار ما تقرأ، والتفاعل فكرياً، وطرح القضايا والإشكاليات المسكوت عنها، خوفاً من حالة التجمد الثقافي، التي يقف عندها البعض وكأنهم حراس قساة على العقول. القراءة حرية.. فكن حراً.