تأتي زيارة قداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية هذا الأسبوع لأبوظبي، لتجسد روح التسامح والتعايش والانفتاح، والتي كانت إحدى الركائز التي تأسس عليها اتحاد دولة الإمارات منذ نشأته في بداية سبعينيات القرن الماضي. ومعلوم أن البابا فرنسيس، والذي يبلغ من العمر الثانية والثمانين، دأب دائماً خلال مسار حياته الكهنوتية، على تأييد ودعم الحوار بين الأديان. وهو ما عبر عنه في عام 2011 على صفحات كتابه الشهير «عن الأرض والسماء»، والذي ألّفه بالمشاركة مع حاخام يهودي، وقال خلاله: «يولد الحوار من موقف الاحترام للشخص الآخر، ومن الإيمان بأن الآخر لديه فكر يستحق الإصغاء. ولكي يتم الحوار، يجب أن يكون هناك متسع في القلب لوجهات نظر الآخرين، ولآرائهم، واعتقاداتهم. كما يجب أن يتضمن الحوار التقبل والاستقبال الودي للآخر، وليس التقبيح والتوبيخ، ولكي نتمكن من التحاور فمن الضروري أن نتخلى عن الرفض من البداية، وأن نفتح أبواب البيت، وأن نمنح الأولوية للمشاعر الإنسانية».
ولم يكتف بابا الفاتيكان الحالي، والذي كان يحتل في ذلك الوقت منصب كاردينال العاصمة الأرجنتينية، بالكلمات وبرفع الشعارات فقط، بل دعم أقواله وتوجيهاته بالأفعال، حينما دعا في نوفمبر عام 2012، جميع قادة الديانات السماوية؛ المسيحية بطوائفها الأخرى غير الكاثوليكية، واليهودية، والإسلام، للصلاة معاً في الكاتدرائية الكبرى في «بوينس آيريس»، من أجل السلام، ومن أجل إنهاء الصراع الدائر في الشرق الأوسط منذ عقود، وبشكل سلمي.
ومباشرة بعد انتخابه لشغل كرسي البابوية، دعا البابا فرنسيس لمزيد من الحوار بين الأديان، كطريقة ووسيلة لبناء الجسور، ولتأسيس أواصر الصداقة بين الجميع.. مشدداً على ضرورة تفعيل التواصل حتى مع الملحدين وغير المؤمنين، كي لا تغلب علينا الاختلافات التي تفرق بين البشر، مصرِّحاً بأن لقبه «البونتيف»، والذي يترجم في العربية إلى فخامة البابا، أصله في اللغة اللاتينية هو «بنّاء الجسور أو باني الجسور»، متمنياً أن يتمكن الحوار من بناء الجسور التي تصل بين الجميع، وبشكل يجعلنا لا ننظر للآخر على أنه عدو أو منافس، لمجرد اختلافه معنا، وإنما إنسان جدير أيضاً بالاحترام وبالاحتواء والاستيعاب.
وبناءً على هذه الخلفية، فقد رحّب قادة الديانات والمذاهب المختلفة في الأرجنتين، مسقط رأسه، بانتخابه لكرسي البابوية في مارس عام 2013، وخصوصاً قادة المجتمع الإسلامي هناك، مؤكدين على أنه دائماً ما طرح نفسه كصديق للمجتمع الإسلامي في الأرجنتين وأميركا اللاتينية عموماً، وكشخص داعم ومؤيد للحوار بين الأديان على اختلافها وتنوعها. كما أثنى حينها قادة المجتمع الإسلامي الأرجنتيني على روابط الصداقة والعمل المشترك التي جمعت بين البابا الحالي وبين المؤسسات الإسلامية في ذلك البلد الواقع في أميركا اللاتينية، منوهين إلى موقفه الرافض لتصريحات البابا السابق له، البابا «بينديكت»، والتي فسرها البعض في ذلك الوقت على أنها تصريحات مسيئة للإسلام، وهي التصريحات التي عبّر البابا فرنسيس في حينه عن اعتراضه على اللغة التي استخدمها فيها البابا «بينديكت»، مصرحاً بأن مثل هذه اللغة يمكنها في غضون 20 ثانية، أن تدمر العلاقة التي عمل البابا الأسبق «جان بول الثاني» حثيثاً على بنائها مع الإسلام والمسلمين، وذلك على مدى أكثر من عشرين عاماً.
ولم تقتصر دعوة البابا فرنسيس للحوار على المسلمين فحسب، بل امتدت أيضاً إلى أتباع الطوائف المسيحية الأخرى، وهو ما نتج عنه التقاء واجتماع باباوات ثلاث من أهم الطوائف المسيحية، وذلك للمرة الأولى في التاريخ، أثناء زيارته للقاهرة في الثامن والعشرين من أبريل عام 2017، حين اجتمع مع البابا تواضروس الثاني بابا الكنيسة القبطية، والبابا ثيودور الثاني بابا وبطريك الكنسية الأرثوذكسية الشرقية في الإسكندرية وعموم أفريقيا.
ولم تقتصر اهتمامات البابا فرنسيس خلال رحلته الطويلة في خدمة الكنيسة الكاثوليكية، والتي امتدت لأكثر من خمسة عقود، على دعم الحوار بين الأديان، حيث اشتهر أيضاً بجهوده في الدعوة لمكافحة الفقر والقضاء على عدم المساواة، مؤسساً منذ عام 2017 لليوم العالمي للفقراء، هذا بالإضافة إلى دعمه للجهود الرامية للحفاظ على البيئة، والذي تجلى في اختياره لاسم فرنسيس، نسبةً إلى القديس «فرنسيس الأسيزي» الذي عاش في نهاية القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر، وعرف باحترامه وحبه للحيوانات والنباتات، وتقديره لما منحه الخالق من مصادر طبيعية لخدمة ورفاهية الإنسان.
وجدير بالذكر هنا أن البابا الحالي، هو أيضاً أول بابا في التاريخ ينتمي لطائفة اليسوعيين، كما أنه أول بابا في التاريخ من أميركا اللاتينية، وأول بابا من خارج أوروبا منذ أكثر من 12 قرناً، وبالتحديد منذ البابا «جريجوري الثالث» السوري الأصل، والذي شغل كرسي البابوية في القرن الثامن الميلادي.
*كاتب متخصص في القضايا العلمية