يخاطب البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، المسيحيين بلهجة التصالح نفسها التي يخاطب بها أبناء الديانات الأخرى، ما أكسبه احتراماً خاصاً حول العالم. وحين يحلّ بأرض دولة الإمارات العربية المتحدة فإنه يلاقي بلداً جعل من «التسامح» شعاراً للعام الحالي. ليس الحدث تاريخياً فحسب بل أصبح متَّفَقاً على أنه صانعٌ للتاريخ. ربما كان وجود رأس الكنيسة الكاثوليكية للمرّة الأولى في شبه الجزيرة العربية، أرض الإسلام، أمراً مستغرباً، لكن مجرد حصوله يكسر أسطورةً لم يصنعها أحد، ولم يعترف بها أحد بل تكرّست فقط بفعل مجريات التاريخ وما خلّفته من رواسب ذات بعد ديني.
زيارة البابا للإمارات مؤشّرٌ إلى أن تغييراً عميقاً حصل ولا يزال ينضج على الجانبين حتى أصبحا مستعدّين للذهاب أبعد في تحاور الأديان وتلاقيها وتصافيها، فهي وُجدت لإرساء الأخوّة الإنسانية لا لضخّ الأحقاد والتعصّبات.
لماذا هذه الزيارة استثنائية لكن طبيعية في آن؟ أي حدث يخترق عقبات ترسّخت عبر عصور لا بدّ أن يكون استثنائياً وغير عادي، حتى لو كانت القلوب والعقول لا تزال متأثّرة بالماضي الثقيل أو حتى بحاضرٍ يحاول تثبيت أخطاء تاريخية وإعادة إنتاج سياسات لم تعد صالحة لهذا العصر. لكن الحدث يبدو طبيعياً لسببين: أولهما أن الأرض المضيفة، أو «دار زايد» كما سمّاها البابا فرنسيس، «مكان آمن للعمل والعيش بحرّية تحترم الاختلاف»، إذ بنى الوالد المؤسس تجربة فريدة من التنمية النشطة ويستكملها «عيال زايد» من بعده لتأكيد قدرتها ليس فقط على صنع السلام والتعايش بل خصوصاً على المساهمة في بلورة صورة للإسلام تدحض كل الصور الزائفة التي أعطيت عنه في العقود الأخيرة. أما السبب الآخر فهو أن الفاتيكان الذي طالما حاول النأي بالمسيحية عن تهوّرات السياسات الغربية وانزلاقاتها إلى تأجيج العنف والتطرّف في الشرق الأوسط، يجد في حبرية البابا فرنسيس فرصة قد لا تتكرّر أولاً لتغليب قيم الحوار وثانياً لتظهير التوافقات والبناء عليها.
منذ تنصيبه عام 2013 استطاع البابا الجديد أن يُحدث فارقاً سواء في النظرة إلى الفاتيكان أم في التواصل مع ممثلي الأديان والمذاهب الأخرى. بل بدا بالغ الاهتمام بتدهور الخطاب السياسي بخلفياته الدينية المعلنة أو المكتومة، خصوصاً أن مسيرته ما قبل البابوية قادته إلى مخالطة المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات السماوية، ثم قاده انفتاحه إلى رفض الخطاب التبسيطي الذي يربط بين الإسلام والتطرّف العنفي، ولذلك لم يتأخر في جعل حوار الأديان ونشر قيم التسامح إحدى أولوياته، وإذ صادف وصوله إلى البابوية بدايات تأثّر الديموقراطيات الغربية بالمدّ التعصبي فإنه لم يتردّد في انتقاد الشعبوية والتحذير من مخاطرها، إذ استشعر أنها ليست مجرّد خيارات سياسية كما يصوّرها أصحابها بل هي دعوات إلى العزل والإقصاء، وبالتالي فهي تشويه لجوهر الدين متنكّر بالسياسة. أكثر من مرّة أضطر البابا فرنسيس للتدخّل لإنهاء مآسي مهاجرين عالقين في عرض البحر قبالة الشواطئ الأوروبية، ولا أي حكومة تريد إيواءهم. وفي خطاب قبل أسبوع في بنما هاجم «اللامسؤولية» في اعتبار المهاجرين سبباً للمشكلات الاجتماعية، وكرّر قلقه الدائم من تداعيات الفقر وشبكات الجرائم واستغلال الضعفاء ومما سمّاها «الجدران غير المرئية» المؤدية إلى «التهميش والفصل والعزل».
تلك هواجس تابعة من قيم إنسانية تختلف إلى حد كبير عن المدّ السائد في عالم اليوم لكن الأديان جميعاً تلتقي عليها. هذا ما عزز مصداقية البابا فرنسيس في سعيه إلى تمييز العداوات السياسية عن الاختلافات الدينية. هو لا يكتفي بالخطب بل يعزّز العلاقات ويعمل على مأسستها لتبلور نهجاً اعتدالياً وتسامحياً موحّداً. وخلال خمسة أعوام من بابويته زار سبعة بلدان عربية ومسلمة، وبعد الإمارات سيكون المغرب محطته التالية أواخر مارس المقبل، وعلى أجندته زيارات للعراق وتونس وباكستان. في إسطنبول صلّى في مسجد السلطان أحمد، وفي القاهرة زار الأزهر ومقر بابا الأقباط، وفي فلسطين جال في المسجد الأقصى، كما حرص على زيارة المساجد في ألبانيا وأفريقيا الوسطى وأذربيجان وبنجلاديش.
يحلّ البابا فرنسيس في أبوظبي بدعوة من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، لكن أيضاً بدعوة من الكنيسة الكاثوليكية في الإمارات. وهذه اللفتة البروتوكولية تشير إلى مدى التغيير الإيجابي الحاصل، وكان الشيخ محمد عبّر عنه بقوله «ننشد عبر (هذه الزيارة) تعظيم فرص الحوار والتعايش السلمي بين الشعوب. ازدهار السلام غاية تتحقّق بالتآلف وتعزيز روابط الأخوة الإنسانية».