سيحتفل مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، في مارس 2019، باليوبيل الفضي لتأسيسه، وهو مناسبة جديرة بأن نتوقف عندها قليلاً، ليس بهدف الحديث عمَّا حققه المركز من إنجازات ونجاحات طوال الخمسة والعشرين عاماً الماضية، فهذه لم تعد تخفى بالتأكيد على كل المهتمين والمتابعين لحقل الدراسات الاستراتيجية في المنطقة العربية والعالم، وإنما لإلقاء بعض الإضاءات على أبعاد التجربة الرائدة والثرية لهذا الصرح البحثي الذي نفخر به ونعتز بما حققه، وما انطوت عليه من دلالات ترتبط بطبيعة الفلسفة الكامنة خلف تأسيسه، وعوامل تميزه ونجاحه.
ولعل الأمر الأول، الذي أود تأكيده هنا، يتمثل في حقيقة أن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، هو نتاج لفكر ورؤية القيادة السياسية الواعية والحكيمة لدولة الإمارات العربية المتحدة، فهذه القيادة التي حبانا الله بها تؤمن إيماناً مطلقاً بقيمة العلم والمعرفة وأهميتهما كأساس للتخطيط السليم للمستقبل، وركيزة لا غنى عنها لعملية صنع القرارات في المجالات كافة. وهذه القناعة رسخها المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، قولاً وفعلاً، معلناً أكثر من مرة، وبكل الوضوح، أن العلم هو أساس تقدم الأمم، وأنه الثروة الحقيقية للأوطان، وأنه النور الذي يضيء المستقبل وحياة الإنسان، وهي القناعة نفسها التي آمنت بها القيادة الإماراتية الرشيدة، ممثلة بسيدي صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وسيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، وسيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، وكرستها منهجاً وأسلوباً في الحكم والإدارة، وأساساً لا بديل له للانطلاق نحو المستقبل.
قيادة رشيدة تؤمن بالبحث العلمي
وفي هذا السياق المشجِّع للعلم والمعرفة، والمحفِّز على البحث العلمي، نبعت فكرة تأسيس مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بصفته أول مؤسسة بحثية ذات طابع استراتيجي في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي الفكرة التي تبناها سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، منذ البداية، وقدم إليها كل صور الدعم والمساندة، حتى خرجت إلى النور، في مارس عام 1994، بتوجيهات من المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وكانت رئاسة سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، للمركز منذ تأسيسه خير دليل وأصدق برهان على إيمان قيادتنا الرشيدة، حفظها الله، بأهمية العلم والبحث العلمي بصفتهما ركيزتين أساسيتين لتحقيق النهضة والتقدم والتنمية الشاملة، كما كان لها الدور الأهم في إنجاح مسيرة المركز وتطوره، وتعزيز مكانته على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية.
الأمر الثاني هو أن تشريفي باختياري مديراً عاماً للمركز، والعمل مباشرة تحت قيادة سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، برغم أنه مصدر فخر كبير لي، فإنه ألقى على كاهلي مسؤولية كبيرة جداً في العمل من أجل تحقيق الأهداف الطموحة لقيادتنا الرشيدة من إنشاء هذا الصرح البحثي في مجالات عمله الرئيسية: البحث العلمي، وخدمة المجتمع، ودعم متخذ القرار. ومن هنا فقد كان الحرص كبيراً منذ البداية على وضع معايير وضوابط علمية صارمة لعمل المركز، تقوم في الأساس على التزام الجدية والموضوعية والدقة التامة، واتباع المنهج العلمي الرصين في كل ما يصدر عن المركز من إصدارات وتقارير وبحوث وصفية أو ميدانية. كما كان المركز حريصاً منذ تأسيسه على أن يكون أميناً في عمله، من خلال تطبيق المعايير العلمية في قراءته الواقع والظواهر محل الدراسة، وفي كل ما يتعلق بعمليات البحث والتحليل وجمع المعلومات واستخلاص النتائج وتقديم الخيارات والبدائل التي يراها مناسبة للتعامل مع أي ظاهرة أو قضية محل بحث، واضعاً نصب عينيه في الدرجة الأولى المصالح العليا لدولة الإمارات العربية المتحدة، وكل ما يعزِّز مكانتها، ويطوِّر مسيرتها التنموية الرائدة.
تعزيز المصداقية
وهذه المعايير والضوابط الصارمة، التي وضعها المركز لعمله، والتزمها منذ تأسيسه حتى اليوم، عززت مصداقيته لدى مختلف مؤسسات صنع القرار الوطني في دولة الإمارات العربية المتحدة، ومعظم المؤسسات الأكاديمية والبحثية في المنطقة والعالم، وهو ما تجلَّى في حرص الكثير من قادة العالم وزعمائه من الشرق والغرب على زيارة المركز، وإلقاء خطاباتهم، وطرح أفكارهم من على منصته، وتجلى كذلك في حرص الكثير من الجهات والمؤسسات العلمية والأكاديمية والبحثية داخل دولة الإمارات العربية المتحدة وخارجها على إبرام اتفاقيات تعاون علمي مع المركز في المجالات البحثية والعلمية المختلفة، فضلاً عن حرص الكثير من الوزارات والمؤسسات والهيئات الإماراتية والخليجية على التعاون مع المركز في تحقيق أهدافها، إيماناً منها بمصداقيته، والتزامه معايير التميز والجودة في الأداء والبحث العلمي.
الإيمان بالتجديد
الأمر الثالث هو أن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية كان مؤمناً، منذ بداية تأسيسه، بالتغيير والتجديد، لذا فقد عمل باستمرار على تطوير آليات عمله وأدواته البحثية والمنهاجية لتتناسب مع التغييرات الحاصلة حول العالم في القضايا المرتبطة بمجالات عمله المختلفة، حتى يكون قادراً على أداء مهامه بالشكل الذي يلائم طبيعة كل مرحلة، وهو الأمر الذي ضمن للمركز التطور المستمر والحفاظ على مكانته البحثية المرموقة وترسيخها، مقارنة بالكثير من المراكز الأخرى المشابهة، التي ظهرت، واندثرت، أو تجمَّدت، لأنها لم تطور نفسها. لقد كانت مفاهيم التجديد والتطوير المستمر والابتكار والجودة هي الحاكمة لطبيعة العمل في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية طوال ربع القرن الماضي، وستظل كذلك في المستقبل، لأنني مؤمن بأن الجمود يعني الاندثار، وأن مقاومة التغيير تعني التخلف والتراجع، ولذا سيظل المركز ملتزماً تبنِّي ثقافة الابتكار والتطوير، والسعي المستمر إلى ابتكار أفكار جديدة وآليات مبتكَرة تساعده على تحقيق أهدافه في خدمة مجتمع الإمارات وصانع القرار الوطني. ويمثل استحداث المركز «إدارة تكنولوجيا المعلومات والابتكار» في عام 2018 تأكيداً لاستمرارية هذا التوجه، حيث تهتم هذه الإدارة بمتابعة آخر التطورات في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وكل ما يرتبط بالثورة الصناعية الرابعة التي تقف دولة الإمارات العربية المتحدة والعالم كله على أعتابها اليوم.
تفاعل إيجابي مع قضايا الوطن
وفي إطار ثقافة الابتكار والتطوير المستمر، التي ينتهجها المركز منذ تأسيسه، أطلق الكثير من المبادرات المهمة للتفاعل الإيجابي مع قضايانا الوطنية والخليجية، ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، مبادرة تشكيل «تحالف عاصفة الفكر»، التي نبعت من المركز بهدف توحيد جهود مراكز البحوث والدراسات في الدول العربية المشاركة في تحالف «عاصفة الحزم» باليمن لدعم متخذي القرار في هذه الدول بما يخدم الأمن الوطني لها وللمنطقة كلها، وبرنامج التسامح والتعايش، الذي بدأ المركز تدريسه اعتباراً من مطلع العام الجاري (6 يناير 2019) لأئمة المساجد والوعاظ في الدولة، تزامناً مع انطلاق عام التسامح. كما خصص المركز جل اهتمامه خلال عام 2018 للاحتفاء بـ«عام زايد» عبر تنظيم الكثير من المحاضرات والفعاليات الثقافية، وإصدار الكثير من الكتب التي تحتفي بمسيرة المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وإنجازاته العظيمة.
الأمر الرابع هو أن المركز وضع، منذ بداية تأسيسه، هدف تشكيل كوادر بشرية وطنية متخصصة بمجال البحث العلمي في أعلى قائمة أولوياته، ونجح على مدى الخمسة والعشرين عاماً في تخريج العديد من الباحثين والمتخصصين الإماراتيين، الذين كان لهم دور مهم، ليس في دفع مسيرة العمل بالمركز وتعزيز إنجازاته فقط، وإنما في العديد من مؤسسات العمل الوطني المهمة التي التحقت بها هذه الكوادر البحثية المواطنة أيضاً. ولم يقتصر الأمر على العاملين في المركز، حيث نظم مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، منذ تأسيسه، عشرات، بل مئات، الدورات التدريبية والتأهيلية المتخصصة للكوادر البشرية من داخل دولة الإمارات العربية المتحدة وخارجها.
حصيلة بلغة الأرقام
الأمر الخامس هو أن المسيرة الحافلة بالإنجازات المعرفية والبحثية والفكرية، التي حققها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية خلال الخمسة والعشرين عاماً الماضية، وضعت المركز في مقدمة المراكز البحثية الأكثر نشاطاً وتميزاً على المستويين الإقليمي والعالمي، فخلال هذه الفترة التي تُعَدُّ قصيرة مقارنة بعمر مراكز بحثية أخرى في المنطقة والعالم، نظم المركز 73 مؤتمراً سنوياً ومتخصصاً، و54 ندوة علمية، و54 ورشة عمل، وما يقرب من 650 محاضرة، تناولت مختلف القضايا والمجالات التي تخص دولة الإمارات العربية المتحدة والمنطقة والعالم، وشارك فيها مئات المسؤولين والخبراء والباحثين من مختلف دول العالم. كما أصدر المركز ما يقرب من 1200 إصدار تنوعت ما بين كتب أصيلة ومترجَمة وسلاسل علمية باللغتين العربية والإنجليزية، بالإضافة إلى دوريتين علميتين، وآلاف النشرات الإخبارية والتحليلية اليومية التي تصدرها إدارة الإعلام، وأجرى ما يقرب من 400 دراسة ميدانية بالتعاون مع الكثير من الوزارات والهيئات الحكومية، لقياس اتجاهات الرأي العام للمواطنين والمقيمين في دولة الإمارات العربية المتحدة حول كثير من القضايا والموضوعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وأعد آلاف الأوراق البحثية وأوراق السياسات الموجَّهة إلى صانعي القرار الوطني، وغير ذلك الكثير من الإنجازات التي يصعب حصرها في هذا المقال.
وبعيداً عن لغة الأرقام والإحصائيات يُحسَب لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية أنه رسخ مفاهيم البحث العلمي والتحليل الاستراتيجي واستشراف المستقبل في دولة الإمارات العربية المتحدة ومنطقة الخليج العربي، فهذه المفاهيم لم تكن متداولة على نطاق واسع وقت تأسيس المركز، كما يُحسَب للمركز أنه وضع الضوابط العلمية والمنهاجية، التي سارت على هديها الكثير من المراكز البحثية التي ظهرت في المنطقة لاحقاً، وشكل النموذج الأمثل عربياً وخليجياً في عملية ربط النخبة الفكرية والمثقفة بصانع القرار الوطني، أسوة بما يحدث في الدول المتقدمة، حيث تلعب المؤسسات البحثية دوراً مهماً في رسم السياسات العامة من خلال ما تطرحه من بدائل وخيارات يستفيد منها صانع القرار في رسمه الخطط والسياسات العامة التي تخدم رؤاه التنموية ومصالح وطنه ومواطنيه، وغير ذلك الكثير من الإنجازات، التي يحق لنا أن نفخر بها، والتي لم تكن لتتحقق وترى النور لولا الدعم اللامحدود من سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، وتوجيهاته السديدة.
نهج «استشراف المستقبل»
الأمر السادس هو أن مصطلح «استشراف المستقبل»، الذي اتخذه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية شعاراً له، ليس مجرد شعار للاستهلاك الإعلامي، وإنما يجسد حقيقة راسخة، ونهجاً أصيلاً في عمل المركز منذ نشأته قبل ربع قرن. فمنذ اليوم الأول لتأسيسه وضع المركز وإدارته قضية استشراف المستقبل أولوية رئيسية لعمله، من خلال دراسة واقع الظواهر المختلفة، وتوقع مساراتها المستقبلية، وطرح السيناريوهات المتعلقة بها وفق أسس علمية ومنهاجية صحيحة، وبما يساعد على توضيح الصورة أمام صانع القرار الوطني، وتنويع خياراته الاستراتيجية عند وضع الخطط الاستراتيجية الطويلة المدى. ومن يتابع مسيرة المركز يمكنه أن يلحظ بوضوح أن القضايا المختلفة، التي كان يطرحها ويناقشها منذ السنوات الأولى لتأسيسه، مثل قضايا: تنويع مصادر الدخل الوطني استعداداً لمرحلة ما بعد النفط، وتطوير التعليم، والتنمية البشرية، هي نفسها القضايا التي أصبحت المنطقة والعالم كله منشغلَين بها اليوم، كما أن اهتمام المركز بقضايا التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية اليوم ينطلق من أنها ستكون القضايا التي تشكل مستقبل المنطقة والعالم في المستقبل.
"اليوبيل الفضي"
ولا شك أننا اليوم، ونحن نحتفل باليوبيل الفضي لتأسيس مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، وبهذه المسيرة الحافلة بالإنجازات لهذا الصرح البحثي، ندرك تماماً أن هذا ليس نهاية المطاف، ولن يكون كذلك، فالمركز، في إطار بحثه الدائم عن التميز وجودة الأداء، لن يقنع بما تحقق من إنجازات برغم عِظَمها، وسيواصل مسيرته البحثية والفكرية في المرحلة المقبلة بنشاط أكبر وهمَّة أعلى، ولاسيما مع تنامي التحديات التي تواجه دولة الإمارات العربية المتحدة والمنطقة كلها، وتنامي أهمية المعرفة في عالم اليوم، التي تتطلب بدورها زيادة الاهتمام بالبحث العلمي في مجالاته المختلفة، لتعزيز قدرة الدولة على مواكبة هذه الثورة المعرفية العالمية، وكذلك لمواكبة سقف الطموح المرتفع لدى قيادتنا الرشيدة، حفظها الله، التي تعمل بكل جدٍّ ومثابرة على وضع هذا الوطن المعطاء في مقدمة دول العالم في كل مجالات التنمية والازدهار، معتمدة في الأساس على التخطيط المبني على العلم والمعرفة والبحث العلمي.