أخيراً خرج الدخان الأبيض نهاية الأسبوع الماضي بعد الإعلان عن آلية التعامل المالي والتجاري الأوروبية الإيرانية، والهادفة إلى الالتفاف على العقوبات الأميركية المفروضة على إيران بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الصيف الماضي، فما هي إمكانات نجاح هذه الاتفاقية؟ وما مدى إمكانية عمل طوق النجاة الممنوح للاقتصاد الإيراني ليبحر وسط الأمواج المتلاطمة التي تتقاذفه يميناً وشمالاً؟ بالإضافة إلى العديد من الأسئلة والتداعيات التي سنحاول الإجابة عليها بالاستناد إلى المعطيات والبيانات المتوافرة.
تهدف هذه الآلية إلى تحقيق هدفين رئيسيين، الأول يكمن في تسهيل صادرات النفط الإيرانية لبلدان الاتحاد الأوروبي والثاني لتسهيل التبادل التجاري بين الجانبين من خلال اعتماد عملات غير الدولار الأميركي المحرم على إيران، أي استخدام «اليورو» بصورة أساسية، وذلك ضمن عمليات معقدة ويكتنفها الكثير من الغموض.
لنفرق بداية بين توجه الحكومات الأوروبية وشركاتها الكبيرة، والتي ترتبط بمصالح عميقة مع الولايات المتحدة الأميركية، حيث انسحبت هذه الشركات كافة من إيران تحاشياً للعقوبات الأميركية الصارمة تجاه كل من يخرق العقوبات، لذلك، فان القرارات الأوروبية الرسمية لا تعني شركاتها الكبرى، والتي ستستمر في المقاطعة، مما يعني أن المؤسسات الأوروبية الصغيرة والمتوسطة التي لا تتعامل مع السوق الأميركية، هي من يستطيع استخدام هذه الآلية وطريقة مدفوعاته المعقدة، إلا أن ذلك ليس هو ما تريده إيران، والتي هي بحاجة للتعامل مع الشركات الكبيرة، وبالأخص في مجال النفط والغاز والتصنيع والتقنيات المتطورة.
وبالتالي، فإن الاتفاق الجديد ربما يساهم بصورة متواضعة في زيادة صادرات النفط والغاز الإيرانية، ويتيح استيراد بعض السلع الاستهلاكية، على اعتبار أن أسواق النفط والغاز الإيرانية تقع في آسيا، وليس في أوروبا، إضافة إلى أن من الصعب تجنب العقوبات في حالة الخرق حتى من قبل الشركات الصغيرة والمتوسطة، والتي ستحسب ألف حساب قبل الإقدام على مثل هذه الخطوة، خصوصاً وأن الرئيس الأميركي قال مباشرة بعد إقرار الآلية من «إن الشركات التي ستتعامل مع إيران ستواجه بعقوبات وخيمة». صحيح أن بعض الشركات ربما لا تتعامل مع السوق الأميركية مباشرة، إلا أنها تستخدم نظام المدفوعات الدولي، الذي تسيطر عليه واشنطن، والتي يمكن أن تضعها ضمن القائمة السوداء، وتعيق معاملاتها حول العالم، والتي يمكن أن تلحق الضرر بعلاقاتها مع العديد من الدول.
في الجانب التجاري، فقد بلغ التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي وإيران العام الماضي 20 مليار دولار، أي قبل تطبيق العقوبات الأميركية، حيث يتوقع أن يتدهور هذا التبادل ليصل إلى مستويات متدنية، أولا بسبب التزام الشركات الأوروبية الكبيرة بالمقاطعة الأميركية، وثانياً لعدم قدرة إيران على تسديد قيمة مشترياتها ضمن النظام المالي العالمي.
إلى جانب ذلك، هناك تفاوت كبير بين دول الاتحاد الأوروبي حول مساعدة إيران من خلال إيجاد هذه الآلية، فالدول التي تزعمت الترويج لها، هي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، في حين تعارضها بولندا والتشيك، كما رفضت كل من بلجيكا التي تستضيف مقر الاتحاد، وكذلك النمسا ولكسمبورج، استضافة توقيع اتفاقية الآلية، مما اضطر الدول الثلاث المتزعمة لها إلى توقيعها في باريس.
لذلك، فإنها تعتبر آلية افتراضية من الصعب تطبيقها، مما حدا بالخارجية الأميركية إلى القول بصورة صحيحة إنها «تستبعد أي اثر لهذه الآلية»، مما يعني أن العقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران ستستمر بتأثيراتها الكبيرة، بدليل أن الرئيس الإيراني روحاني قال إن هذه العقوبات «هي الأشد منذ أربعين عاماً، وأنها صعبة ومؤثرة على الأوضاع الاقتصادية هناك». والنتيجة أن السعي لإبرام هذه الآلية العقيمة يكمن في محاولة الجانبين الأوروبي والإيراني حفظ ماء الوجه، فالطرفان معارضان للعقوبات الأميركية، ولا يملكان القدرة والقوة لوقفها، الأول لأسباب موضوعية تتعلق بسيطرة شركاته الكبرى على الاقتصاد، والثاني بسبب ضعفه وإهدار ثروته خلال أربعين عاماً لتحقيق أجنداته الخارجية الفاشلة، والتي ساهمت بدورها في تحول إيران ذاتها إلى دولة فاشلة.