من الضروري أن ينصرف الجهد الأكبر للقائمين على رعاية الدعوة والمعرفة الدينية إلى ما يشبع الظمأ الروحي الشديد، الذي يعاني منه البشر المنتمون والموالون والتابعون والمنتسبون إلى الأديان جميعاً، وعلى حد سواء، بعد أن تحول التدين عن الأغلبية إلى مجموعة من الطقوس الشكلية التي يؤديها الناس بشكل آلي، متوهمين أنها هي وحدها كفيلة مقاصد الأديان وغاياتها الكبرى والجوهرية. ورغم أن بعض هؤلاء قد التفت إلى ضرورة علاج هذه الآفة، فجاءت الرهبنة في المسيحية، والتصوف في الإسلام، والتأمل في البوذية، إلا أن الجوانب الطقسية الشكلية هي الغالبة على التدين. وليس المطلوب بالقطع هنا أن يتحول كل الناس إلى قديسين وأولياء وكهنة إنما المرجو هو أن يكون الامتلاء الروحي حاضراً في تدين التيار العريض، وأن يجد كل فرد ما يدفعه إلى الغوص العميق في غايات الدين، وعلله البعيدة، ثم الامتثال لها في ما يقوله أو يفعله.
وقد التفتت وثيقة «الأخوة الإنسانية» التي وقعها في أبوظبي يوم الاثنين الماضي فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب والبابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية إلى هذه المعضلة فنصت على أن: «أهمَّ أسبابِ أزمةِ العالمِ اليَوْمَ يَعُودُ إلى تَغيِيبِ الضميرِ الإنسانيِّ وإقصاءِ الأخلاقِ الدِّينيَّةِ، وكذلك استِدعاءُ النَّزْعَةِ الفرديَّةِ والفَلْسَفاتِ المادِّيَّةِ، التي تُؤَلِّهُ الإنسانَ، وتَضَعُ القِيَمَ المادِّيَّةَ الدُّنيويَّةَ مَوْضِعَ المَبادِئِ العُلْيَا والمُتسامِية. إنَّنا، وإنْ كُنَّا نُقدِّرُ الجوانبَ الإيجابيَّةَ التي حقَّقَتْها حَضارَتُنا الحَدِيثةُ في مَجالِ العِلْمِ والتِّقنيةِ والطبِّ والصِّناعةِ والرَّفاهِيةِ، وبخاصَّةٍ في الدُّوَلِ المُتقدِّمةِ، فإنَّا - مع ذلك - نُسجِّلُ أنَّ هذه القَفزات التاريخيَّةَ الكُبرى والمَحمُودةَ تَراجَعَتْ معها الأخلاقُ الضَّابِطةُ للتصرُّفاتِ الدوليَّةِ، وتَراجَعَتِ القِيَمُ الرُّوحِيَّةُ والشُّعُورُ بالمَسؤُوليَّةِ، ممَّا أسهَمَ في نَشْرِ شُعُورٍ عامٍّ بالإحباطِ والعُزْلَةِ واليَأْسِ، ودَفَعَ الكَثِيرينَ إلى الانخِراطِ إمَّا في دَوَّامةِ التَّطرُّفِ الإلحاديِّ واللادينيِّ، وإمَّا في دوامة التَّطرُّفِ الدِّينيِّ والتشدُّدِ والتَّعصُّبِ الأعمى، كما دَفَعَ البعضَ إلى تَبَنِّي أشكالٍ من الإدمانِ والتَّدمِيرِ الذاتيِّ والجَماعيِّ»، ثم عادت وأكدت في المبادئ العامة التي أقرتها أن «الحوارَ بين المُؤمِنين يَعنِي التلاقيَ في المساحةِ الهائلةِ للقِيَمِ الرُّوحيَّةِ والإنسانيَّةِ والاجتماعيَّةِ المُشترَكةِ، واستثمارَ ذلك في نَشْرِ الأخلاقِ والفَضائلِ العُلْيَا التي تدعو إليها الأديانُ».
وهناك أسباب أخرى للخواء الروحي غير الإغراق في الأنانية والفردية والمادية المربوطة بالتقدم التقني والصناعي الهائل تتمثل في توظيف الجماعات والتنظيمات الدينية للدين في تحصيل السلطة السياسية، والثروة الاقتصادية، والمكانة الاجتماعية، بما يحوله إلى مجرد «مادة استعمالية» قابلة للتطويع وفق مختلف المواقف وإن تناقضت، والأحوال وإن تنافرت، والظروف وإن تباعدت. وهذه الآفة أصيبت بها كل الأديان من دون استثناء، فما يسمى «جيش الرب» في أوغندا والمنسوب إلى المسيحية لا يختلف في هذا عن تنظيم «داعش» المحسوب زورا على الإسلام. ولا يختلف الاثنان عن التصورات التي ساقها كاهن بوذي برر بها قتل المسلمين وتشريدهم في ميانمار، ولا عن بعض الرؤى التي يتبناها متعصبون من اليهود في اضطهاد الشعب الفلسطيني أو تبرير الاستعلاء على سائر الشعوب وأهل الأديان الأخرى.
إن لدى كل هؤلاء نوعا من «الفراغ» في الأفكار السياسية الحقيقية، القادرة بذاتها على بناء حجتها وجذب الناس إليها بعد اقتناعهم بها، ولا يكون أمامهم أسهل من استعمال الأديان لملء هذا الفراغ، فثراء نصوصها، وكثرة أتباعها، ورسوخها في الأزمنة، وانتشارها في الأمكنة، يجعلها أكثر إغراء في توظيفها سياسيا، ليس من زاوية ما تفرضه هي من ضرورة منح السياسة إطاراً أخلاقياً، لكن من زاوية من تطلبه السياسة كما يفهمها المتطرفون ويمارسونها من استعمال ما يبرر الخداع والكذب والمراوغة والانتفاع والقتل. ويبدو هذا النوع من الخواء الروحي أشد خطورة من ذلك الذي ترتبه الحياة المادية، فالفرد المجذوب إلى الماديات بإرادته المنفردة بوسعه أن يتوقف ليراجع نفسه، وحتما سيدرك أنه في حاجة ماسة إلى ما يملأ روحه، وله الحرية في أن يمتثل لهذا. أما الفرد المربوط بتنظيم ديني يملأ فراغ أفكاره السياسية بحمولات دينية ستضيق فرصته في مراجعة موقفه، وإنْ راجع فستضيق حريته في التصرف المنفرد بالابتعاد عن التنظيم.