بملاحظة التحول في سياسة السودان الخارجية من خلال الإسهام المشكور والمقدر والمرحب به في التحالف العربي في اليمن لإعادة الشرعية إليه وإنقاذه من براثن «الحوثيين» والضبع الإيراني، ومع ما يبدو من ابتعاد السودان عن سياسات التقارب مع إيران، والنأي بعيداً عن استقطاباتها لدول المنطقة، ومحاولات ضربها ببعضها بعضاً، نتوقع بأن نشهد على مدى المستقبل المنظور تغيرات وتعديلات ملموسة على صعيد سياسات السودان الداخلية، خاصة تغييرات تطال التمسك الشديد بالأيديولوجيا والطروحات «الإخوانية»، لتعيد إليه لحمته وتآلف أهله ووحدته التي يكاد يفقدها، وعلاقاته مع إخوانه العرب الآخرين من خليجيين وغيرهم. وفي تقديري أن المشكلة الكبرى التي أدخلت السودان في هذه الدوامة المعضلة التي تؤثر كثيراً على مسيرته التنموية وعلاقاته مع أشقائه العرب الخليجيين هي تبني الأيديولوجيا «الإخوانية» في بلد مترامي الأطراف، تقطنه أقوام وأعراق وأجناس شتى.
ومن خلال زيارتي الأخيرة السودان للمشاركة في مئوية زايد، والتقائي وتحاوري مع عدد من السودانيين المقربين جداً من دوائر السلطة، لاحظت بأن السودان الآن في وسط معمعة من محاولات العودة إلى المسارات الصحيحة على صعد عدة، وذلك بعد أن اتضح بأن السياسات التي اتبعت خلال السنوات الماضية والقائمة على استخدام أيديولوجيا «الإخوان» المسلمين دفعت بالبلاد والعباد، وبشكل سريع، باتجاه التدهور السياسي والاقتصادي والأخلاقي، خاصة مع وجود العديد من فلول الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية على أراضيه، ووجود قوانين تعسفية ومعاناة مدنية مستمرة مصحوبة بخروقات لحقوق المواطنين، واقتصاد متدهور وتآكل في سعر العملة الوطنية، وانعدام وجود المحروقات، ونقص في المواد التموينية، وتدهور في خدمات التعليم والصحة والإسكان، وشبه انهيار لمرافق البنية التحتية الأساسية.
لذلك فإن ما تكشفت عنه الحالة الآن هو أن عمليات أسلمة المجتمع بالقوة لم يكن لها منذ البداية أرضية حاضنة أو مستقبل وسط بيئة معقدة التركيب كالتي يتكون منها المجتمع السوداني المركب عرقياً ودينياً وطائفياً. وهنا نقول بأنه إذا ما كانت عمليات إصلاح المسارات التي يعلن عنها بين الفينة والأخرى حقيقية وجادة ومقصودة حقاً فإن أول ما يجب الشروع فيه هو نسيان الذي مضى من أصحاب السلطة أولاً، ثم بعد ذلك من قبل جميع الأطراف السودانية التي تخاصم الدولة والحكومة السودانية القائمة، إذا ما كان السودان يهمهم جميعاً، وبدء صفحة جديدة والكتابة من أول السطر كما يقولون.
ولكي يتحقق لهم ذلك بما يرضى الجميع، فإن الخطوة الأولى هي إصلاح أو حتى تغيير الدستور المعمول به حالياً، وإخراج جميع المواد والبنود والعبارات والألفاظ والمصطلحات التي تستعدي السودانيين ضد بعضهم بعضاً، ووضع دستور جديد صالح لمجتمع مدني حقيقي، ثم بعد ذلك تبني خطوط وسطية غير متشددة، والابتعاد عن الغلو الديني المتشدد الذي قام على فكر «إخواني»، دمر مقدرات السودان تدميراً صار إصلاحه صعباً ويحتاج إلى معجزة حقيقية لكي يعود إلى جادة الصواب. إن عدم القيام بانتهاج خطوط وسطية سيكون له نتائج كارثية على مستقبل السودان وعلى الحريات العامة والمدنية بالبلاد وبقائها واستمرارها كدولة متماسكة باتجاه محك الخطر الشديد، لذلك فإن الفرصة متاحة لإحداث إصلاح فعلي، وكل ما يغيب هو النوايا الصادقة والإرادة الصلبة.
*كاتب إماراتي