طوال ثلاثة أيام عاشت الإمارات العربية المتحدة والعالم من حولها ضرباً من ضروب «اليوتوبيا» والتي قل أن يعرفها عالمنا المعاصر، ذلك المصاب بداء القومية والشوفينية المتطرفة من جهة، والموبوءة بأمراض الأصوليات الراديكالية من جهة أخرى. نقلت الإمارات العربية المتحدة العالم إلى أجواء غير مسبوقة من الود الإنساني الموصول ومن مشاعر الأخوة الإنسانية الحقيقية دون رياء أو كبرياء، وبثقة الواثق خطت الإمارات صفحة جديدة في تاريخ الإنسانية المعاصر.
أن تجمع أبوظبي تحت جناحيها، البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، الأب الروحي لنحو مليار وثلاثمائة مليون نسمة حول العالم، وفي حضور ومشاركة قلبية وحبية من شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب ممثل الإسلام السُني عالمياً، فلعمري الحدث جلل وتاريخي دون تهوين أو تهويل. ثمة مشاهد وملامح إنسانية لا يمكن للعين أن تخطيء قراءتها، تلك التي يسميها البعض لغة الجسد، تمثلت في وجه البابا فرنسيس لحظة استقباله من طرف صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.
أبناء زايد في حقيقة الحال جبلوا على إكرام الضيف، وأي ضيف هذا الذي يزور بلادهم للمرة الأولى في تاريخ العلاقة بين الإسلام والمسيحية، بين الشرق والغرب، في زيارة تقيم سداً وحداً بين ما قبلها وما بعدها، فلربما انتهت أزمنة الحوار الثنائي التقليدي، لينتقل الأمر إلى مستوى مغاير من العيش الواحد.
مشهد آخر يوضح لنا قدر الحدث الذي نحن بشأنه، ذلك أن العناق الأخوي الحار بين البابا فرنسيس وشيخ الأزهر تجاوز كل المشاهد البروتوكولية والرسمية المعمول بها في إطار الاستقبالات الرسمية، والذين عندهم علم من كتاب الدبلوماسية الفاتيكانية يدرك تمام الإدراك كيف أن التعاطي مع البابا شكلياً له قواعد مرعية وأصول فرعية، لكن المحبة الصادقة المخصلة تجب كل هذه الاعتبارات، ولقاء السحاب بين الرجلين، يدفع ولا شك ملايين المسلمين والمسيحيين إلى مساقات غير مسبوقة من التآخي.
من بين أفضل ما قدمته زيارة البابا والشيخ للعالم وليس للعرب أو الشرق أوسطيين فقط، هو أنها فتحت طاقات من الأمل على المستقبل، من خلال فرصة نادرة الحدوث تتصل بجمع رجالات الأديان مسلمين ومسيحيين، يهود وبوذيين، من كل الأمم ومن كل القبائل ومن كل الشعوب، هؤلاء احتضنتهم أبوظبي، ليقدموا للعالم مثالاً حياً على إمكانية الحياة سوياً، وإن الجهاد يمكن أن يكون من أجل حياة أفضل، وأنه لا يعني الموت دائماً، وأبداً، كما يذهب إلى ذلك أصحاب الفكر المتطرف من الشمال والجنوب، الأمر الذي تبدى جلياً في الكلمات التي ألقيت من على المنصات وطوال أيام مؤتمر الأخوة الإنسانية الأول من نوعه في هذا الإطار.
ولعل ما ميز هذه الزيارة بشكل عام هو مخرجاتها المهمة والثمينة قبل أي شيء آخر، وفي المقدمة من تلك المخرجات وثيقة «الأخوة الإنسانية» التي وقع عليها البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، والتي يراها المراقبون من الجانب الكاثوليكي الدولي، وفي ست قارات، نقلة جديدة بعد نصف قرن تقريباً أو أزيد قليلاً منذ وثيقة «في حاضرات أيامنا»، التي صدرت عن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في ستينات القرن المنصرم، وفي عهد البابا بولس السادس.
الوثيقة الجديدة لا تقف عند مفاعيل الحوار وأهميته فقط، بل إنها توسع من دائرة التفاعل الإنساني مع المضطهدين والمهاجرين، اللاجئين والجائعين، مع الأقليات والمنتهكة كرامتهم، من كافة الأديان والأجناس، معتبرة أن حق العبادة وحرية الإيمان والمعتقد حقوق أصيلة، وليست مكتسبة أو منة من أحد على أحد.
حين يقوم البابا فرنسيس بأداء صلوات القداس الإلهي أعمق وأهم الشعائر في الحياة الإيمانية المسيحية على أرض استاد مدينة زايد الرياضية، وفي حضور نحو 180 ألفاً من المؤمنين الكاثوليكي، وغيرهم، وحتى من المسلمين الإماراتيين الذين ذهبوا للمجاملة ولإبداء روح المحبة الواحدة، فإن شيئاً ما قد تغير في مسيرة اتباع الأديان، شيء جذري في واقع الحال، فبعد ثمانية قرون من المواجهات العسكرية بين الشرق والغرب، ها هو البابا يأتي زائراً بالمحبة والإنسانية، لا بجيوش أو فرق عسكرية كما قال ستالين في تندره على البابا بيوس الثاني عشر العام 1945.
مشهد القداس والصلاة كان ولابد أن يبعث برسالة لا تقبل الشك للعالم الخارجي بأنه على أرض المسلمين هناك مساحات واسعة جداً وصادقة إلى أبعد حد ومد من التسامح الإنساني الخلاق، ومن معايير المواطنة، وتحقيق شرعة حقوق الإنسان. ويبقى الاستحقاق الأهم، فالزيارة لم تنته تبعاتها واستحقاقاتها بعد رحيل البابا، بل لعلها قد بدأت، وهذا ما يتجلى واضحاً في مبادرة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، وإعلانه تأسيس بيت العائلة الإبراهيمية ليكون شاهداً على ذلك اللقاء، ومنطلقاً لإكمال تلك المسيرة الإنسانية الخلاقة، والتي تحتاج إلى سقي ورعاية يوماً تلو الآخر. مبروك للإمارات هذا النجاح الكبير.
*كاتب مصري