قد يندهش البعض من حقيقة أن العديد من الدول الأوربية، تتعرض حالياً لمعدلات من الإصابة بفيروس الحصبة، ومن الوفيات الناتجة عنه، بلغت مستويات قياسية، على الرغم من أن مواطني هذه الدول تتوفر لهم نظم رعاية صحية هي من بين الأفضل على مستوى العالم كله تقريباً. هذه الحقيقة أكدها تقرير صدر الأسبوع الماضي عن منظمة الصحة العالمية، وأظهر أن عدد حالات الإصابة بالحصبة في دول القارة العجوز، تضاعف ثلاث مرات عام 2018، مقارنةً بعام 2017، ليبلغ أكثر من 82 ألف حالة إصابة، وهو أعلى معدل للإصابات بهذا المرض خلال عقد كامل، مما أدى إلى 72 حالة وفاة العام الماضي، مقارنة بـ 42 حالة وفاة في العام الذي سبقه.
وتظهر البيانات والإحصائيات أن 90 في المئة من تلك الحالات كانت في عشر دول فقط، منها فرنسا، وإيطاليا، واليونان، وإن كانت أوكرانيا احتلت رأس القائمة على صعيد عدد الحالات، مسجلةً أكثر من 53 ألف حالة، وهو ما يزيد على عشرة أمثال عدد الحالات التي سُجلت في صربيا، البلد الذي يحتل المرتبة الثانية على هذه القائمة، والتي تم فيها تسجيل 5 آلاف حالة فقط العام الماضي.
والحصبة هي مرض فيروسي معدٍ، ينتقل عن طريق الرذاذ التنفسي أو الإفرازات التنفسية للمرضى المصابين به. ولا يوجد حتى الآن علاج محدد للحصبة، ويعتمد علاج الحالات التي لا تصاحَب بمضاعفات، على الراحة وتلقي السوائل ومخفضات الحرارة. وتبلغ درجة شدة عدوى هذا المرض أنه إذا أصيب به أحد أفراد العائلة، فسرعان ما يصاب به 90 في المئة من باقي العائلة، إذا لم يكن أفرادها متمتعين بمناعة من خلال تطعيم أو إصابة سابقة. أما على صعيد الوقاية، فيمكن تحقيقها من خلال التطعيم، والذي تبلغ تكلفته دولاراً واحدا فقط في الدول النامية، مما يجعل التطعيم ضد الحصبة من أفضل الاستثمارات في مجال الصحة العامة، بالنظر إلى أرواح الأطفال التي يمكن إنقاذها من خلاله، في ظل تكلفته الزهيدة.
ومنذ عقد الستينيات أمكن تحقيق الوقاية ضد فيروس الحصبة من خلال تطعيم، فعال وآمن وزهيد الثمن، ولذا توصي منظمة الصحة العالمية بضرورة تطعيم جميع الأطفال، والبالغين حتى إذا لم يكن هناك مانع محدد، ضمن ما يعرف بالتطعيم الثلاثي والمحتوي على تطعيمات ضد فيروس الحصبة الألمانية وفيروس الغدة النكافية، وتوجد عدة أنواع من هذا التطعيم، ثنائي ورباعي، وإن كان المهم هو ضرورة إدراجه –بغض النظر عن نوعه– ضمن برامج التطعيم الوطنية.
وكنتيجة للسهولة التي ينتقل بها الفيروس من شخص إلى آخر، تنص التوصيات الطبية حول هذا المرض على ضرورة تطعيم 95 في المئة على الأقل من أفراد المجتمع، لتحقيق ما يعرف بمناعة القطيع (Herd Immunity). وهي حالة من الحماية غير المباشرة من مرض معد، تتحقق عندما تتوفر مناعة لجزء كبير من أفراد المجتمع، وهو ما يوفر بالتبعية مناعة للأفراد الذين لم يتلقوا تطعيماً سابقاً. ففي المجتمع الذي يتمتع فيه عدد كبير من الأفراد بالمناعة، تنكسر سلسلة انتقال الفيروس من شخص إلى آخر.
وعلى ما يبدو فالمشكلة التي تتعرض لها حالياً العديد من الدول الأوربية، وخصوصاً أوكرانيا، تتعلق تحديداً بالتغطية التطعيمية للسكان. فمع احتدام الصراع العسكري في أوكرانيا بين المؤيدين لعلاقات تقارب مع دول الاتحاد الأوروبي (والغرب عموماً)، وبين الداعمين لبقاء العلاقات الخاصة مع روسيا (خصوصاً الأقليات العرقية ذات الأصول الروسية)، انخفضت نسبة التغطية التطعيمية بشكل كبير، لتصل إلى 30 في المئة فقط في ذروة الصراع عام 2016، وهي نسبة أقل بكثير من الـ 95 في المئة المطلوبة لبلوغ مستوى مناعة القطيع سابقة الذكر.
ورغم النجاح الذي تحقق لاحقاً في تغيير هذا الاتجاه، والوصول بنسبة التغطية التطعيمية للأطفال الأوكرانيين إلى 90 في المئة خلال العالم التالي (2017)، إلا أنه من الضروري حالياً، وفي المستقبل أيضاً، الحفاظ على هذا المستوى، لمنع وقوع المزيد من الأوبئة المحلية. وعلى المستوى الأوروبي عامة، وبالتحديد في الدول التسع الباقية التي تشهد حالياً أعلى معدلات للإصابة، وإن كانت أقل بكثير مقارنةً بأوكرانيا، فلابد من الاستمرار في تحقيق مستويات أعلى من التغطية التطعيمية، مقارنة بما هي عليه الآن. وبوجه عام، يعتبر الوضع الأوروبي الحالي، على صعيد الإصابات والوفيات بسبب فيروس الحصبة، درساً وعبرة، لابد أن تأخذه في الاعتبار باقي دول العالم، وأن تستفيد منه على صعيد إدراك تبعات وفداحة التهاون في تحقيق أعلى مستويات ممكنة من التطعيم ضد فيروس الحصبة.