يبدو أن النقاش الدائر حول الجدار الحدودي والهجرة قد تعرض لكثير من التحوير والتشويه جراء تصريحات الرئيس دونالد ترامب غير المعقولة، لدرجة أننا نسينا كيف سيكون عليه الحال لو كان لدينا في الواقع رئيس يضع موضوع الحدود الحقيقي في إطاره الصحيح بطريقة صادقة حقاً، من أجل الإتيان بحل حقيقي – وليس مجرد إلهاب حماس قاعدته الانتخابية. ولكن للأسف لدينا رئيس يريد إنفاق 5.7 مليار دولار على جدار من أجل حل مشاكله السياسية مع أشخاص، مثل «راش ليمبو» و«آن كولتر» و«لورا إنجراهام»، في حين أن ما نحتاجه الإنفاق 5.7 مليار دولار على استراتيجية متعددة الجوانب تعالج تحدي الهجرة الحقيقي الذي نواجهه.
إليكم الطريقة «الافتراضية» التي كان سيشرح بها رئيس آخر الموضوع: مواطني الأميركيين، إننا نواجه أزمة عالمية: ذلك أن أعداداً متزايدة من الناس تتنقل اليوم بحثاً عن وظائف، أو من أجل اللجوء فراراً من حكومات قاتلة، أو الأمان هرباً من الكوارث البيئية، أو فقط بحثاً عن النظام أكثر من أي وقت منذ الحرب العالمية الثانية – نحو 70 مليون شخص.
لماذا الآن؟ الجواب: خلال القرنين 19 و20 انتقل العالم من وضع كان يُحكم فيه من قبل امبراطوريات كبيرة في كثير من المناطق إلى وضع يُحكم فيه من قبل دول أمم مستقلة. والخمسون عاماً التي تلت الحرب العالمية الثانية كانت وقتاً ممتازاً لتكون دولة أمة صغيرة ضعيفة – لعدة أسباب.
أولاً، لأنه كانت ثمة قوتان عظميان تتنافسان على تأييدك عبر إلقاء المساعدات الخارجية عليك، وإنشاء جيشك، وشراء سلعك الرخيصة، وتعليم أطفالك في جامعاتهما. ثانياً، تغير المناخ كان معتدلاً. ثالثاً، السكان كانوا ما زالوا تحت السيطرة في العالم النامي. رابعاً، لم يكن لدى أي أحد هاتف خليوي يمكّنه من تنظيم حركات ضد حكومتك بسهولة أو حتى رؤية شكل باريس. خامساً، لم تكن الصين قد انضمت إلى منظمة التجارة العالمية، وبالتالي كان باستطاعة كل بلد فقير العمل في قطاع النسيج وصناعات أخرى منخفضة الأجور.
كل هذه الامتيازات اختفت في القرن 21. وبالمقابل، بدأت حالات الطقس المتطرف الناجمة عن تغير المناخ، إضافة إلى التصحر الذي يتسبب فيه البشر، تعصف بالكثير من البلدان، وخاصة مزارعيها الصغار. كما عرف عدد سكان العالم النامي انفجاراً بفضل تحسن الرعاية الصحية. فانتقلت أفريقيا، مثلاً، من 140 مليون نسمة في 1900، إلى مليار نسمة في 2010، إلى 2.5 مليار نسمة متوقعة في 2050. والارتفاع نفسه حصل في أميركا الوسطى، في بلدان، مثل جواتيمالا.
وفي الأثناء، مكّن الهاتف الذكي المواطنين من مقارنة مستويات معيشتهم بسهولة مع مدن مثل باريس. وانضمت الصين لمنظمة التجارة العالمية، فابتلعت الصناعات منخفضة الأجور، ومع نهاية الحرب الباردة، لم تعد أي قوة عظمى ترغب في لمس بلدك، لأن كل ما ستكسبه من وراء ذلك هو فاتورة.
والنتيجة هي أنه بات من الصعب أكثر أن تكون بلداً ضعيفاً اليوم، وبدأت الأكثر ضعفاً منها تفشل أو تتمزق وتصاب بنزيف سكاني. وهذا هو حال غواتيمالا وهندوراس والسلفادور وفنزويلا اليوم في هذا الجزء من العالم، وحال السودان وسوريا وأفغانستان وليبيا وبلدان عديدة في أفريقيا جنوب الصحراء.
وهذا يخلق مناطق «اضطراب» واسعة – فالاتجاه الجيوسياسي الأكبر في العالم اليوم هو أن كل الناس يحاولون الرحيل من مناطق الاضطراب التي ينعدم فيها النظام إلى عالم النظام. وهذا هو ما يخلق بدوره كل ردود الفعل الشعبوية والقومية والمعادية للمهاجرين في العالم الذي يسوده النظام – وخاصة في أميركا وأوروبا.
هذا هو السياق الحقيقي لأزمة الهجرة هذه. فما هو الحل؟ حسناً، إذا نظرت إلى الشيء الذي أبطأ تدفق الرجال المكسيكيين الشرعيين وغير الشرعيين على أميركا، فستجد أنه خليط من توافر فرص اقتصادية أكثر في المكسيك، إضافة إلى تباطؤ النمو السكاني، إضافة إلى تحسين الحكامة، إضافة إلى تحسن الأمن الحدودي على الحدود المكسيكية- الأميركية.
والواقع أن هذه الصيغة نفسها ينبغي أن تطبّق على جواتيمالا وهندوراس والسلفادور. فهذه البلدان أصبحت المصدر الرئيس لكل أولئك المهاجرين والقوافل التي تأتي إلى أميركا اليوم. وعليه، فالمطلوب اليوم هو سياسة هجرة أميركية ذكية تدعم التخطيط العائلي في المناطق الريفية في أميركا الوسطى.
كما ينبغي الانكباب على سبل التخفيف من تأثيرات تغير المناخ، وهو شيء يرفض ترامب فعله. فحالات الطقس المتطرف تؤثّر سلباً على الزراعة الصغيرة في أميركا الوسطى. وعندما تضعف الزراعة الصغيرة أو تنهار، فإن الناس يغادرون الأرياف ويتدفقون على المدن. وعندما يجدون تفشي البطالة والجريمة هناك، يقصدون أميركا.
وفي الوقت نفسه، نحن في حاجة لموجة استثمارية من قبل الشركات والحكومات المحلية والأجنبية قصد إنشاء البنى التحتية والسياحة والتجارة في أميركا الوسطى، حتى يتسنى لعدد أكبر من الناس النجاح والازدهار هناك. وأخيراً، نحن في حاجة أيضاً إلى سياجات وطائرات من دون طيار وأجهزة استشعار من أجل تقوية الحدود في بعض الأماكن. ولكن عوضاً عن بناء جدار يكلف 5.7 مليار دولار ضد المكسيك، فإن ما نحتاجه أكثر هو مساعدة المكسيك على تحسين قدرتها على اعتراض سبيل المهاجرين على حدودها الجنوبية مع جواتيمالا – حيث يضطر كل مهاجري أميركا الوسطى المتجهين شمالاً للمرور من هناك.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
Canonical URL
https://www.nytimes.com/2019/02/05/opinion/trump-immigration-border.html