تحارب القوات المسلحة الأميركية في عدد من بلدان الشرق الأوسط الكبير منذ عام 2001، بدايةً في أفغانستان، ثم الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، والصراعات اللاحقة في المنطقة، بما في ذلك التدخلات في كل من ليبيا وسوريا. ويعتقد كل من الرئيس دونالد ترامب وغالبية الشعب الأميركي أنه «كفى قتالاً»، وأن الوقت قد حان لكي تنسحب الولايات المتحدة تماماً من تدخلاتها العسكرية في المنطقة.
لكن أكثر الأمور المثيرة للجدل هي توقيت وأسلوب سحب القوات الأميركية. فتصريحات الرئيس ترامب الأخيرة بشأن الموضوع، والتي أدلى بها عبر «تغريدات» على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، تعتبر سبباً رئيسياً للمشكلة. ففي 19 و20 من ديسمبر الماضي، أعلن للمرة الأولى أنه بالنظر إلى أن تنظيم «داعش» الإرهابي قد مُني بالهزيمة في سوريا، فإنه سيسحب القوات البرية الأميركية البالغ قوامها هناك 200 جندي. وفي اليوم التالي، قال إنه سيسحب 7000 جندي آخرين من أفغانستان، وهو ما يعني تقريباً نصف إجمالي عدد القوات الأميركية هناك. وأدى الإعلان بشأن سوريا، والذي جاء من دون أية مشاورات مع فريق الأمن الوطني الأميركي أو حلفاء الولايات المتحدة، إلى استقالة فورية من قبل وزير الدفاع الأميركي «جيمس ماتيس» واعتراضات واسعة النطاق من أعضاء "جمهوريين" بارزين في الكونجرس، ومن بينهم عضو مجلس الشيوخ «ليندسي جراهام» أحد أشد المؤيدين ولاءً للرئيس ترامب. وأثار الإعلان أيضاً مخاوف شديدة في إسرائيل وبين الأكراد أنفسهم في سوريا وفي أماكن أخرى.
وفي الثالث من شهر فبراير الجاري، عقّد ترامب المشكلة في حوار صحافي مع قناة «سي بي إس نيوز» بإعلانه أنه على النقيض من سوريا وأفغانستان، فإنه يعتزم الحفاظ على تواجد عسكري في العراق من أجل «مراقبة وثيقة للأنشطة التخريبية الإيرانية». لكن بالنظر إلى أن واشنطن تحتفظ بقوة أميركية في العراق بناءً على طلب من الحكومة العراقية، والتي تربطها في المقابل علاقات جيدة مع طهران، فإن الصخب الذي أعقب ذلك التصريح أظهر إلى أي مدى كان تصريحاً غير ضروري، إذ عرّض مستقبل تواجد القوات الأميركية في العراق للخطر. واستغل الإيرانيون كلمات ترامب لتأكيد أن الولايات المتحدة تحاول زيادة الضغوط والتهديدات ضد بلادهم بنية السعي لـ«تغيير النظام» فيها. وهو ما يجعل من الصعب على القوات الأميركية العمل في العراق ومواصلة مهمتهم المتمثلة في الحيلولة دون عودة ظهور تنظيم «داعش» الإرهابي.
وسيكون لهذه التطورات تأثيراً سلبياً على جهود وساطة إدارة ترامب من أجل التوصل إلى اتفاق سلام دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ويقود صهر الرئيس ترامب، «جاريد كوشنر»، هذه المبادرة الأميركية. وجوهر مقترحات «كوشنر» ترتكز على ضرورة تعاون وثيق من بعض الدول العربية في المنطقة. وتأييد هذه الدول للجوانب الاقتصادية والسياسية في الاتفاقية الجديدة أمر ضروري، لكن حتى هذه المرحلة، لا تزال تفاصيل خطة السلام غامضة بدرجة كبيرة. وفي هذا السياق، كلما ضعف الموقف الأميركي بشكل عام في الشرق الأوسط، قلّت قدرة واشنطن على إقناع إسرائيل بتقديم تنازلات على الأرض، وخصوصاً في ضوء زيادة التواجد والنفوذ الموازيين لروسيا وإيران وتركيا في المنطقة. وأفضل أمل لنجاح سياسة ترامب الغامضة بشأن الشرق الأوسط في الوقت الراهن هو أن يرتكب خصومه في المنطقة أخطاءَ جوهرية أو يخفقون إخفاقاً كبيراً.
وهناك قيود مالية وسياسية على عمق وقدرة روسيا على إبقاء التزامها تجاه نظام بشار الأسد، خصوصاً أن حركة التمرد من المرجح أن تستمر كتهديد إرهابي دائم، وستواصل إسرائيل حربها الجوية ضد إيران و«حزب الله» في كل من سوريا ولبنان. وفي الوقت ذاته، يعاني الاقتصاد الإيراني من اضطرابات في ضوء تقويض العقوبات الأميركية الجديدة قدرةَ طهران على تسويق النفط وشراء الوسائل التكنولوجية المطلوبة بشدة من أجل قطاعها المدني، لاسيما الطائرات الحديثة. ولابد من أخذ تركيا في الحسبان، فهي أيضاً تواجه أوقاتاً اقتصادية صعبة مع احتمال تخلفها عن سداد قروض لصالح بنوك أوروبية.
بيد أن ارتكاز السياسات الأميركية على أمل أن يخفق الآخرون هو إفراط في سياسة رد الفعل. والمطلوب هو طرح أكثر وضوحاً وصراحة لاستراتيجية أميركية شاملة تجاه المنطقة تكون منسّقة تنسيقاً مكثفاً وعن كثب مع الحلفاء البارزين، وخصوصاً الأوروبيين. وحتى الآن لم يحدث شيء من ذلك!