تحرص الأمم الحية على اهتمام أهلها بالشأن العام، ومشاركتهم في صناعة ما يجري لهم، ويجري عليهم من قرار. فمهما كانت قدرة المؤسسات الواقع على عاتقها النظر في مختلف الأمور، فإنها في نهاية المطاف بحاجة ماسة إلى نيل الرضا العام عن أدائها، بما يجعل القائمين عليها يفضلون أحياناً أن يكون الناس حاضرين في تحديد السياسات العامة لها، بوسائل عدة ومتفاوتة من مجتمع إلى آخر. يختلف هذا الوضع وفق مدى تفهم القيادة السياسة للصالح العام والخير المشترك، وطبيعة النظام السياسي القائم، والسياق الاجتماعي والدولي الذي يعمل فيه، والظرف الذي تمر بها البلاد. فوقت الأزمة قد يتعذر أخذ الرأي العام في الاعتبار بالقدر نفسه الذي يتم في الأحوال العادية والطبيعية، وهناك قطاع لا بأس به من الناس يتفهم هذا بالقطع.لا يعني ذلك أن المؤسسات، حتى في الدول الديمقراطية، لا تضيق ذرعاً بكثرة الأنوف التي تريد أن تندس في كل شيء، لكن دوماً يكون هناك حد مناسب من أخذ موقف الناس في الاعتبار، وهي مسألة ترتبها في أغلب الأحوال الاستطلاعات المتلاحقة للرأي العام، والتقارير المتصاعدة من المؤسسات الأدنى إلى أعلى، وما يبديه المنشغلون بمعرفة تأثير القرارات المتخذة على الناس ورصد اتجاهاتهم فيما يعد نوعا من «التغذية المرتدة» التي يجب أن يُنظر إليها مليا في سبيل ترشيد القرار أو تصحيحه، أو حتى التمهل في اتخاذ قرارات أخرى لاحقة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام هو: ماذا لو أحجم الناس عن المشاركة، وأظهروا قدراً عميقاً من اللامبالاة حيال ما يجري؟ وكيف يمكن وقتها للمؤسسات الكبرى أن تتصرف؟
بالقطع فإن النظم الشمولية قد يسعدها انسحاب الناس من المجال العام، لأن هذا الفراغ سيجعل المتحكمين في هذه النظم مستأثرين بكل عناصر اتخاذ القرار، دون أن يخشوا عواقب، قد لا يرونها، وإن رأوها لا ينشغلون بتأثيرها عليهم. أما في النظم الديمقراطية فإن مثل هذا الانسحاب سيسبب قلقاً شديداً على شرعيتها، التي هي في الأساس بأيدي الناس. هذا الانسحاب قد يكون ضجراً مؤقتاً مما يجري ثم لا تلبث الجماهير أن تعود إلى الاهتمام، بل قد تقدم على عقاب من تسببوا في هذا الضجر، وقد يكون نوعاً من اللامبالاة، وهنا تولد مشكلة كبرى، تتجلى مظاهرها في فقدان الثقة بين السلطة والشعب، وضعف الانتماء إلى البلد، وعدم الاهتمام بالخدمة العامة ومصلحة الجماعة الوطنية.
فاللامبالاة السياسية مرض لا يمكن السكوت عليه، وسرعان ما ينقلب للضد، وفي العموم هو لا يجري في اتجاه تحقيق المصلحة العامة. ويصبح أمراً كارثياً في البلدان التي تواجه تهديداً بالحرب، أو أعمالا إرهابية متواصلة. ولذا فإن كثيرين ينبهون السلطات الحاكمة في أي بلد بألا تتصرف بما يجعل الناس يقفون على الحياد في المعركة ضد التنظيمات الإرهابية، أو لا يبالون بالمواجهة الدائرة، ولا بالنتائج التي تترتب عليها.
وأحياناً تحدث اللامبالاة حين تمر الدول بانكسارات كبرى، ينجم عنها إحباط جماعي عميق، يزداد سوءاً إن جاء بعد فترة استيقظت فيها ثورة التطلعات وبلغت مدى عالياً، جراء حركة احتجاج واسعة في سبيل التغيير، أو وعود براقة أطلقتها السلطة، أو قيادة عول عليها الناس كثيراً، ثم خاب ظنهم فيها.
واللامبالاة العامة تعد نوعاً من الفراغ، أو هي تصنع فراغاً سياسياً، حيث تنادي السلطة قوماً من الغائبين، وتقرر فيهم، وتتحدث باسمهم، دون أن يعنيهم الأمر من قريب أو بعيد، بل ينسحبون إلى الخلف، في انطواء تتسع رقعته، حتى يصبح أشبه بمرض نفسي سياسي، وربما وباء، تاركين خلفهم فراغا تضطر السلطة إلى ملئه بأكاذيب عن القرارات والإجراءات والخطط التي تتم صناعتها في سبيل تحقيق مصلحة الشعب.
لكن هذا النوع من الفراغ السياسي يكون مؤقتا بطبيعة الحال، إذ لا توجد أمة بوسعها أن تبقى لا مبالية بما يجري فيها ولها إلى الأبد. فكل الناس ينسحبون ضيقا أو يأسا ثم لا يلبثون أن يعودوا متغلبين على هذه المشاعر السلبية.