في علم أصول الدين، جعل المتكلمون موضوع العلم ليس الذات الإلهية بل الطبيعة والنظر في ظواهرها ومكوناتها وجواهرها، وحركاتها وعللها. وبعد ذلك تأتي الأدلة على وجود الله. فالنظر في الطبيعة سابق على النظر في الله، والبحث في المحسوس سابق على البحث في المعقول، ومشاهدة المرئي سابقة على التفكير في اللامرئي الذي لا يعرف إلا عن طريق قياس الغائب على الشاهد. نظرية الذات والصفات والأفعال، هي لب النسق الأشعري، وهي تستند إلى قياس الغائب على الشاهد. فالإنسان عالم وقادر وحي يسمع ويبصر ويتكلم ويريد، كما أوضح الأشعري في «مقالات الإسلاميين». والنبوة فعل في التاريخ وحركة فيه، وتحقق لحقائقها في توالي الأزمان. والمعاد ليس مجرد إيمان بالبعث والنشور، بل استعداد له بالعمل الصالح. والإيمان والعمل والإمامة.. كل ذلك يشير إلى تحقق الوحي في التاريخ، في الفرد والجماعة.
وفي أصول الفقه، ورغم ما يبدو على الأدلة الشرعية الأربعة، الكتاب، والسنة والإجماع والقياس.. من طابع استدلالي، فإن الكتاب نشأ في المكان والزمان، في «أسباب النزول» و«الناسخ المنسوخ». والسنة هي التحقق النموذجي الأول للوحي في الواقع، وللشريعة في المجتمع، وللنبوة في الدولة. والإجماع أمة في التاريخ، وشعوب في الزمان والمكان. لكلٍ إجماعه طبقاً لظروف العصر دون إلزام اللاحق بالسابق. والاجتهاد رغم طابعه الاستدلالي، فهو يقوم على تعليل الأفعال ومعرفة مكوناتها وعللها. والأشكال الحرة للقياس، مثل الاستحسان والاستصلاح والاستصحاب، إنما تعتمد على المصالح المرسلة في العالم خارج العقل تحقيقاً لمنافع الناس.
والأخلاق التأملية عند ابن سينا وابن مسكويه، هي أخلاق نظرية طبقاً لقسمة قوى النفس إلى ثلاث: القوة الشهوية وفضيلتها العفة، والقوة الغضبية وفضيلتها الشجاعة، والقوة العقلية وفضيلتها الحكمة، وهي أعلاها جميعاً. ومن التوازن بين هذه القوى تنشأ فضيلة رابعة هي العدالة. وبصرف النظر عن مصدر هذه القسمة، فإنها عرضت على العقل فقبلها، والعقل أساس النقل. وهو القاسم المشترك بين الشريعة والحكمة. والحقيقة أنها أخلاق عملية؛ تبدأ من النفس كي تنتهي إلى تقوى القلب.
ورغم أن المدينة الفاضلة عند الفارابي يتربع على قمتها الملك الفيلسوف والنبي والإمام، ويقبع في قاعدتها العمال والفلاحون والصيادون، وما بينهما الجند والعلماء، فإن ذلك نوع من تقسيم العمل، والتدرج في السلطة.
وفي العلوم النقلية الخمسة، القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، اثنان منها عمليان، هما السيرة والفقه.
والقرآن رسالة عملية للفعل والتحقق وحمل الأمانة وأداء الرسالة. وقد تم جمعه وترتيبه بفعل البشر. والحديث تفصيلات وإيضاحات عملية للقرآن، وقد جمعه الرواة. ومن شروط الرواية تطابق النظر مع العمل عند الراوي. والتفسير لا يهدف فقط إلى إعطاء مزيد من المعلومات التاريخية أو اللغوية أو التشريعية عن القرآن، بل يهدف إلى توجيه الأمة وإصلاحها.
والعلوم العقلية، الرياضية والطبيعية الخالصة، تبدو في الظاهر أبنية معرفية، وهي في الأصل علوم عملية. فالحساب إنما نشأ لضبط المواريث، والهندسة لبناء المساجد، والفلك لمعرفة مواقيت الصلاة والحج والاهتداء بالنجوم في الأسفار. ونشأ الطب لمعالجة جرحى الفتوحات، والكيمياء لصناعة الأدوية، والطبيعة لصناعة السلاح.
وفي الحضارة اليونانية، لم يضع فيثاغورث فقط أسس علم الحساب، بل كان صاحب نِحلة صوفية عملية تقوم على التطهير. ونظرية المثل عند أفلاطون تبدو في الظاهر نموذجاً لأولوية المعرفة على الوجود، مع أنها استقراء للكليات من الجزئيات طبقاً للجدل الصاعد كما هو الحال في الفن المصري القديم الذي نقله أفلاطون إلى نظرية المعرفة وعلاقتها بالوجود.
ولا فرق بين الطبيعيات والإلهيات، فهما علم واحد يتجاذبه جدل السلب والإيجاب. المقولات واحدة، الحركة والسكون، الجوهر والعرض، الصورة والمادة، القوة والفعل، مرة إثباتا للطبيعة ومرة أخرى نفياً لما بعد الطبيعة، حيث تنشأ الطبيعيات، ومرة ثالثة يكون نفياً للطبيعة وإثباتاً لما بعد الطبيعة فتنشأ الإلهيات.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة